الشيخ يوسف سرور
تتسامى نفوس باتباعها طريق الحق، وتجشُّم أسفاره، وتبعات لوازمه وآثاره، وتتألق في سيرها وتقلّبها في أحوال الكادحين إلى ربهم. تنحر كل شهواتها على مذبح العشق، توطّن الذات على المضي في سبيل ذات الشوكة، لتغدو الأشواك المعترضة طحالب تنسحق تحت الأقدام الثابتة... لتصير جمار العابثين، ولهيب نيران الحاقدين، وبراكين غضب الشانئين، سراباً يحسبه الشانئ لهيباً، وما هو بلهيب، ويحسبه العابث ناراً، وما هو بنار، ويظنه الحاقد جماراً، وما هو سوى نيران يشتد أوارها في قلوب الحاسدين.
تتقدم قافلة أهل الحق غير عابئة بالصعاب، تنقاد لها العوامل مطواعة، تنفلت من عقال المعتاد، لتنتظم في إسارهم مسخرة بأمرهم، كما أمرها الحق، بل تأتي منجذبة إلى أهل الحق، مأخوذة بهذا الجمال الذي هو تجلٍّ لجمال الحق. أهل الحق، تنفذ أنظارهم إلى واقع الأشياء، بحيث لا توهمهم المغالطات، ولا تُلبس عليهم الأشياء على غير واقعها، فهم أهل البصائر. أهل الحق، لا يقحمون أنفسهم في مهاوي الردى من غير إعداد ولا استعداد، بحيث يلقون أنفسهم في التهلكة، بل يتدبرون الأمور ويقدرون المصالح وفق الأولويات، ويُقْدِمون على ما يقدّمه أهل العقل والمنطق وأصحاب الحجى. أهل الحق يشغلون أنفسهم بما يشغل بال أهل العقل، فتراهم معرضين عن صغائر الأمور، منكبِّين على ما فيه خيرهم وخير أمتهم، مشتغلين بما فيه صلاح الجماعة والأفراد عن سفاسف الصبيان ومحقرات الأشياء. أهل الحق، هم أهل الاقتدار والقوة، فلأنهم ينقادون تكويناً للحق، تأبى نفوسهم الضعف والخور، بل تراهم يعدّون ويستعدون، ليكونوا مالكين لأمرهم في غابة الوحوش والسباع، تتجاسر الضواري على كل من عداهم، ويهابهم كل من عاداهم.
أهل الحق، هم أهل الإلفة والائتلاف، فتراهم حريصين على جمع الكلمة، مصرّين على اكتساب الأخوة والأصدقاء، لأنهم طيبون يحبون خلق اللَّه، فيحبهم أهل الفطرة وأبناء الإنسانية الأسوياء، ولا يعترضهم سوى أصحاب النفوس المريضة، أتباع الشيطان المنساقين للشياطين، ولا يواجههم سوى جبابرة الأرض، المعاندين للحق، فهم يعاندون أهله؛ ولو كان أهل الحق هم الأنبياء في زمانهم لوقفوا في وجههم. حيث يتعارض ذلك مع مصالحهم وطموحاتهم في امتلاك الأرض وما عليها، واستعباد أهلها، وانتهاب خيراتها في أربع جهاتها، وامتلاك فضائها وسمائها، واحتساب أنفاس العباد على ظهرها، وسحق أية كلمة اعتراض من أهلها، واستضعاف أبنائها، والجهد في سبيل صوغ بنائها المعرفي وفق مصالحهم، واستلاب هويات شعوبها، والتعدي على ثقافاتهم وأعرافهم، وتسفيه مُثلهم وقيمهم، إلى حدٍّ يصبح هؤلاء إما منقادين انقياداً مطلقاً لجبابرة الأرض، أو معزولين متقوقعين على ذاتهم، تتملكهم الهواجس والمخاوف، يُتربَّص بهم من كل جانب، يُنعتون بشتى أصناف النعوت المعادية لقيم الإنسانية، ومختلف الأوصاف المنبوذة، حتى يصبح أهل القيم والمبادئ، وأصحاب المثل السوية، في موقع المدافع عن نفسه، الجاهد في رفع التهم عن جماعته، ودفع الافتراءات التي تكال له.
أهل الحق، هم أهل الاستقامة والثبات، الذين لا تختلط عليهم أحداث الزمان، ولا تتزلزل ذواتهم من جراء وقائع الحدثان، فحيث إن نياتهم في أعمالهم خالصة لوجه الحق، لا تشوبها التفاتة إلى يمين أو يسار، وحيث إن قلوبهم متعلقة بالحق، فلا تنجذب لغير جمال الحق، ولا يخيفها سوى وعيد الحق، وحيث إن نفوسهم مجبولة بطينة أصل الخلق، فهي خلوٌ لحبِّ الحق، ولا يشركونه حبَّ أحدٍ من الخلق إلا إذا كان في الحق، وحيث إن أرواحهم معلقة بالمحل الأعلى، ويقينهم أن رؤوسهم لا يقطعها إلا من يركّبها فإن اجتماع الباطل عليهم، واحتشاد قوى الشر في مقابلهم، واصطفاف أهل الضلال في مواجهتهم، لا يثنيهم عن التمسك بحقهم، بل يزيدهم إيماناً وتسليماً، ولا يدفعهم إلا للقول: حسبنا اللَّه ونعم الوكيل. وإن لهاث بعض الظاهرين بلباس أهل الحق خلف موقع هنا، ومالٍ هناك، واحتشادهم مع أهل الباطل والضلال، ومحاولة إبرازهم على منابر العداء لأهل الحق، كل ذلك لا يزيدهم إلا قوة وثباتاً؛ ولا يدفعهم سوى إلى نبذ هؤلاء ولفظهم، فإن مسيرة الحق هي في سبيل كل الخلق، لكنها لا تتسع لغير من ينطق بالحق.