د. طلال عتريسي(*)
ربما تشكل هذه الصورة التي عبرت عنها قصة: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ مشهداً من مشاهد الحياة التي تزداد وتيرتها في علاقات الأبناء مع الأهل. إذ لم يعد من المستغرب كثيراً أن نسمع شكوى مماثلة عن إهمال الأولاد لذويهم أو عن سفر هؤلاء وبقائهم بعيداً، أو عن إيداعهم إذا بلغوا الكبر مأوى أو داراً للمسنين، فيتخلصون بذلك من رعايتهم أو متابعة شؤونهم الصحية أو الاجتماعية.
* ظاهرة جديدة
إن ما يفسر ازدياد هذه الظاهرة، حتى في أوساط المسلمين، هو التغيرات التي حصلت على مستوى العائلة أولاً. فقد تراجعت في السنوات الماضية الكثير من القيم التي كانت تشد الأبناء إلى الأهل. وسبب هذا التراجع هو أنماط الحياة الجديدة التي تأثرت بما بات يعرف بالموجة "التقنية"، أو الاستخدام المتزايد للتكنولوجيا في حياتنا اليومية. فهذا الاستخدام الذي دخل البيوت والغرف، جعل من الأسرة الواحدة مجموعة أفراد، ينصرف كل واحد منهم إلى جهاز الكمبيوتر الذي يمتلكه أو إلى التلفاز في غرفته، أو يذهب في وقت الفراغ إلى المقهى المجاور للتسلي بالوسائل التكنولوجية، التي بات اللجوء إليها سهلاً وأسعارها زهيدة، بحيث يتاح لأيٍّ كان تحمل نفقاتها أو تمضية الساعات الطوال يومياً أمامها. ويكفي أن تراقب الحجم المتزايد لأعداد هذه المقاهي التي تنتشر كالفطر بين الأحياء في المدن والقرى، لتدرك التأثير الذي تتركه على ميول الشباب واتجاهاتهم، وعلى العزل الذي تقوم به بين هؤلاء الشباب وبين محيطهم الأسري ومحيطهم الاجتماعي. ومن الطبيعي مع تزايد تأثير هذه التقنيات، أن يتراجع بالمقابل تأثير الروابط الاجتماعية عما كان عليه الوضع عندما كان أفراد الأسر يلتقون معاً، أو يمضون أوقات السهرة أو الفراغ في عمل مشترك أو زيارة مشتركة. ولم تسلم الروابط الأسرية من هذا التراجع، لأن قيماً أخرى بدأت بدورها تتسلل إلى العقول في البلدان الإسلامية بموازاة العزل والفردانية التي نشأت عن استخدام التكنولوجيا. ومن أبرز هذه القيم، تلك التي تدعو إلى إعلاء قيمة الفرد على حساب الآخرين، وإلى اعتبار مفاهيم التضحية والإيثار والتضامن، بمثابة مفاهيم تَمُتُّ إلى العصور الماضية، عندما لم تكن سمة العصر هي التنافس والسرعة من أجل الحصول على المكاسب والمواقع وتحصيل الثروة. ومع مثل هذه المفاهيم، يصعب النظر إلى الأسرة عموماً، وإلى الوالدين خصوصاً، من زاوية الالتزام الأخلاقي أو الديني، لأن القيم الحديثة التي تريد من الإنسان أن يسارع إلى تحصيل المال والثروة قبل الآخرين، وأن يدوس على الضعفاء، لن تترك له أي مجال للرحمة أو لتحمّل كبير السن، أو لما يُطلق عليه في المفهوم الديني "بر الوالدين".
وربما يعبّر التزايد المضطرد للمؤسسات الرعائية والاجتماعية، خاصة تلك التي تؤوي المسنين عن هذا التغير في طبيعة النظرة إلى الوالدين، وإلى معنى البر بهما، وإلى ارتباط هذا البر بالبعد الديني الإيماني الذي يحض على مبادلتهما الاهتمام والرعاية في الكبر، كما فعلا للأبناء في صغرهم. فقبل سنوات لم يكن إرسال الوالدين أو أحدهما إلى تلك المؤسسات مقبولاً بأي شكل، لا بل كان يثير الاستنكار والرفض من البيئة العائلية والاجتماعية. أما اليوم فبات الأمر أكثر سهولة وأكثر قبولاً. وهذا دليل على التغير الذي أشرنا إليه. ولا تفوتنا هنا الإشارة إلى أن عمل الأبناء، جميعاً، الإناث منهم والذكور، يساعد بدوره في التذرع بعدم إيجاد الوقت الكافي للاهتمام بالوالدين، وبالتفكير في نقلهما إلى مؤسسات أخرى غير المؤسسة العائلية. كما أن سفر الأبناء إلى الخارج، سواء للتعلّم أو للعمل، يترك الوالدين من دون أي رعاية مباشرة. وهذه مشكلة حقيقية مع تراجع الترابط العائلي الذي سبق وأشرنا إليه، والذي يتجلى في تراجع زيارات الأقارب وفي تواصل الأرحام. خاصة وأن العائلة الكبيرة التي كان يعيش في كنفها الأبناء وزوجاتهم مع الوالدين قد اختفت، واستبدلت بالعائلة الصغيرة، التي يُترك فيها الوالدان لوحدهما إذا ما شق الأبناء طريقهم نحو السفر أو نحو الزواج أو نحو العمل خارج البلاد.
* في قصتنا
إن ما تقدم، ومن خلال المشكلة المطروحة، لا يبرر بأي شكل من الأشكال الإهمال الذي يتعرض له الوالدان بسبب التغيرات التي تحصل في أنماط العيش ووسائل الاتصال والتواصل. وإذا كانت الظروف قد دفعت الأبناء إلى الهجرة بعيداً عن الأهل لأسباب مختلفة وهذا يتكرر كثيراً في أيامنا هذه فإن ما لا يمكن تبريره أو القبول به هو ترك الأهل ولو في حالة من الفقر والعوز. لا بل المطلوب ليس فقط تأمين القوت والدواء والحياة اللائقة، بل وإيجاد من يساعد الوالدين (ممرض أو خادم) على مواجهة الوحدة ومشاكل الحياة اليومية. ولو فكرنا عملياً في هذا الجانب فلن يكون من الصعوبة بمكان أن يتعاون هؤلاء الأبناء على تأمين مبلغ مناسب من المال لإرساله إلى ذويهم، ولا حتى التفاهم في ما بينهم على الزيارات المتواصلة، بحيث لا يشعر الوالدان بمثل هذا الغياب القاسي الذي يولّد مشاعر الحزن والحسرة على كل ما بذلاه نحو أبنائهما. تبدو هذه المشكلة وكأنها تعبر عن واقع يزداد انتشاراً واتساعاً في أوساط العائلات المسلمة في بلادنا. لكن ذلك لا يمكن مواجهته أو التقليل من آثاره السلبية، إلا بمزيد من بث الوعي الديني تجاه حق الوالدين، الذي جعله اللَّه سبحانه وتعالى حقاً رفيعاً، فربط بين رضاه على الإنسان وبين رضا الوالدين مباشرة. كما جعل الجنة تحت أقدام الأمهات. إلى الوصايا الكثيرة التي حضّت عليها الآيات القرآنية التي منعت الأبناء حتى من التأفف، فكيف بقسوة القلب تجاه الوالدين؟
* المطلوب: تكوين الوعي
إن الحاجة إلى مثل هذا الوعي تبدو أكثر إلحاحاً في عالم اليوم. وإذا كان من الصعوبة العودة بهذه الأسرة إلى الماضي، لبث الوعي بحق الوالدين بين الأبناء، فإن الأمر يبدو مطلوباً بشدة بالنسبة إلى جيل اليوم، الذي بدأ يفقد بدوره ذلك الاحترام المطلوب تجاه الوالدين. وهذا يحتاج إلى اهتمام تربوي خاص، ابتداء من الأسرة مروراً بالمدرسة وما يجري فيها من تعليم ديني وتربية مدنية وأخلاقية، وأنشطة متنوعة يتربى فيها التلميذ على القيم السليمة، إلى وسائل الإعلام التي ينبغي أن تشدد في الكثير من برامجها على هذا النوع من التفكك الذي يصيب الأسرة في مجتمعاتنا. وغالباً ما يدفع الوالدان الثمن بعد التضحيات التي لم يبخلا فيها بشيء من أجل أولادهما. وعلى الرغم من كل ما ورد في تلك القصة، وما يمكن أن يرد في قصص مماثلة، تبقى عاطفة الأبوين أشد قوة وحرارة من عاطفة الأبناء. لكن ذلك لا ينبغي أن يمنع الوالدين من الاهتمام المبكر بتدريب الأبناء على الاحترام والطاعة من المنظور الديني، أو من المنظور الأخلاقي، وكلاهما يفرض مثل تلك الطاعة ومثل ذلك الاحترام لمن قدّم وضحى ولم يبخل بأي شيء.
(*) أستاذ علم الاجتماع التربوي في الجامعة اللبنانية.