د. حسن سلهب(*)
مع دخول التعليم شكل الصفوف الحالية، تابع المعلم دوره المحوري في كل ما يحدث داخل الصف، وتكرست الوضعية السلبية للتلامذة، وبدت العملية التعليمية متقدمة في الشكل (غرف، مقاعد، ألواح،...) متكررة في المنهج. في ظل هذه المعطيات، ومع تنامي الحاجات العصرية، كان لا بد من اعتماد خيارات جديدة تشجع التلامذة على المبادرة، وتعالج أجواء الملل والرتابة، من دون أن تُفقد المعلم دوره الرئيسي في العملية التعليمية.
*حيوية الاستجواب
في تلك المرحلة تكونت فكرة إشراك التلامذة في بناء وتفسير المعارف الجديدة. ولم تكن هذه الفكرة، على الأرجح ، وليدة تصور جديد لدور التلميذ في العملية التعليمية، كما هو الحال اليوم. وجل ما كان يسعى إليه المعنيون في تلك الفترة هو تحقيق حيوية ملحوظة في الصف، قوامها الأساس توجيه كمية من الأسئلة من قبل المعلم للتلامذة، في إيقاع سريع ونشيط، مع تحديد ضوابط للتلميذ الذي سيجيب، وذلك في لحظات متوالية لا تتجاوز كل واحدة منها الثواني المحدودة، حيث يعمد المعلم بعد كل إجابة صحيحة إلى تأكيدها، ثم الانطلاق منها إلى سؤال جديد، ويشمل ذلك معظم المعارف الجديدة المقرر اكتسابها خلال حصة تعليمية. جرى توصيف هذا النوع من الخطوات التعليمية بالاستجواب أو الطريقة الإستجوابية. وحظي المدرسون المحترفون لهذه الطريقة بتقدير المشرفين التربويين، كما نالوا التنويهات الكريمة والمكافآت السخية على ذلك. والعبرة في كل الموضوع تكمن في أن هؤلاء المدرسين تمكنوا من بناء المعلومات والمعارف الجديدة في أجواء زاخرة بالنشاط والحيوية، وبواسطة إجابات التلامذة إلى حد ملحوظ، حيث تحولت الحجرة الصفية إلى مكان ممتع ومثير للمشاعر المتوثبة، بعد أن كانت بيئة مثقلة بالملل والضجر وحبس الأنفاس.
*إعادة النظر في الاستجواب
لا شك بأن الاستجواب قد أنجز خطوة متقدمة على صعيد تخلي المعلم عن دوره كضابط وسيد سلبي للصف. ولا شك أيضاً بأن التلامذة قد شرعوا، بصورة مقصودة، في أول محاولة للتأثير الفعلي على مجريات الصف، بعد أن كانوا عرضة لكل المؤثرات التي يراها أو يريدها المعلم فقط. ومن غير الواقعية، الآن، الحكم على تلك المرحلة على ضوء التطورات الجديدة في الفكر التربوي. فقد أدت تلك الخطوات دورها، ولكل فكرة ظروفها ومقوماتها، ولا يصح اعتماد أي فكرة بناءً على مكوناتها الذاتية فقط. ما نقترحه في هذه الورقة، هو إعادة النظر في اعتماد الخطوات الإستجوابية، وبالتالي التحول التدريجي عنها نحو خيارات جديدة، تتناسب مع مبدأ محورية التلميذ في عملية التعلم، ومؤشر التحوّل حدوث عملية ذهنية واحدة وكاملة لدى التلميذ. إن التعليم قبل الاستجواب كان يتضمن عمليات ذهنية أساسية عند المعلم، فهو الذي يتكلم غالباً، وهو الذي يحكم دائماً. وفي مرحلة الاستجواب تخلى المعلم نسبياً عن كونه المتكلم غالباً والحاكم دائماً وغدا صوت التلميذ مسموعاً وحكمه ممكناً، ولكن بإذن مسبق وبإشارة خاصة وبطريقة مجزَّأة. أي أن العمليات الذهنية أصبحت منقسمة إذا جاز التعبير، للمعلم أن يسأل وللتلميذ الإجابة. فمقدمات السؤال وشروطه وغايته، وموقعه من المعرفة أو الخبرة الجديدة، بقي عند المعلم، وما على التلميذ إلا إن يتفاعل مع أجزاء متفرقة من هذه المعرفة أو الخبرة. بمعنى آخر بقيت عملية التعليم مرتبطة بالأسئلة التي يطلقها المعلم، وفي إطار ضيق لا يسمح بمبادرة التلميذ كما لا يضمن مشاركة فعلية لكل التلاميذ. فإذا كان الهدف إتقان معادلة جديدة في الرياضيات مثلاً، فما على التلميذ إلا الإجابة بسرعة على مجموعة أسئلة من شأنها أن توصله بسرعة، ومن دون تأمل، إلى تلك المعادلة. ويبقى عليه ربطها وتوليفها فيما بعد كي تصبح واضحة ومنتجة لديه. ما نطرحه في مرحلة ما بعد الاستجواب، هو إمساك التلميذ بالعملية بشكل مترابط من البداية. وفي مثالنا المذكور يكلف التلميذ بعد التمهيد، بإنجاز جملة من الخطوات من شأنها مساعدته على اكتساب المعادلة بشكل مترابط ومكتمل، أي من خلال حدوث عملية ذهنية شاملة للمعادلة عند التلميذ، وليس عن طريق السؤال والجواب السريعين بين المعلم والتلميذ، كما نرى في خطوات الاستجواب. أكثر من ذلك، وانطلاقاً من المحورية هذه، فإننا نطمح إلى أن يتحول التلميذ إلى مصدر للسؤال وباحث في الوقت نفسه عن إجابة، وليس فقط عرضة لسيل لا يهدأ من الأسئلة التي تنعش ذاكرته وسرعة بديهته في أحسن الأحوال، ولا تبني معرفته بشكل غني ومتين.
*الخيارات الجديدة
القاعدة الجديدة التي يتعين علينا الالتزام بها ليست لتحقيق الحركة والحيوية داخل الصف، كما كان الحال مع خطوات الاستجواب، والتي غالباً ما كانت شكلية ومقتصرة على المجموعة البارزة من التلامذة، أو التي تود البروز، في الصف، بل تحقيق بيئة تعلّمية من شأنها تيسير انخراط الصف في عمليات ذهنية مكتملة، بغية اكتساب معارف أو قدرات أو مهارات جديدة. في الخيارات الجديدة، لم نعد مسكونين بتحاشي الملل والضجر والرتابة أو حتى تشجيع التلميذ على الكلام فحسب، بل منهمكين في ترتيب كل الشروط اللازمة لتمكين التلميذ من التفكير والفهم بشكل تلقائي وبإنتاجية ذاتية ملحوظة. وبدل أن يكون تحاشي الملل والضجر والرتابة هدفاً أو هماً، يصبح طريقاً طبيعياً وتحصيلاً تلقائياً.
فإذا أردت إكساب التلامذة معرفة جديدة في القواعد أو الإملاء اللغوي، فالطريق الأنسب ليس عرض الأمثلة على اللوح، وتوجيه الأسئلة بإيقاع سريع ونشيط لمجموعة محدودة في الصف للإجابة عليها خلال ثوان قليلة، وبطريقة من يرفع إصبعه أولاً، بل في توزيع تلك الأمثلة على جميع التلامذة، مرفقة بأسئلة ميسرة وممنهجة، وتكليفهم، فرادى أو جماعات، بالإجابة عليها خلال دقائق، ثم عرضها ومناقشتها بالتوالي، من دون أي إحساس بالتزاحم، وما ينجم عن ذلك من روح الغلبة أو البروز الشخصي. فالهدف في الخيارات الجديدة، هو ضمان التفكير لدى أكثر التلامذة، إن لم يكن كلهم، بعيداً عن أجواء الصخب التي لا يتقن السير فيها إلا مجموعة من التلامذة وبمواصفات محددة. وفي أي حال فإن الخطوات الإستجوابية تستلزم المزيد من الجهد والتركيز للمحافظة على النظام في الصف، وغالباً ما تتطلب حضوراً من النوع القوي للمعلم، وهذا ما لا يتوافر بسهولة في صفوف أغلبية المعلمين. إن الشكل الذي نطمح إليه للصف لا تهيمن عليه الأصابع المرفوعة، والأذونات المتوالية، والأصوات المتقاطعة، ولا الهامات المشدودة نحو المعلم تدفع بثقلها، وبكل ما لديها من قامة، للحصول على تأشيرة الإجابة. إن الشكل الذي نطمح إليه لا يريد معلماً يكاد لا يستقر على حال، مشغولاً بتعيين المجيب تارة، وإطلاق السؤال أخرى، يرمق بتوتره الملحوظ جماعات أخرى لم تنخرط بعد، بالرغم من الدعوات المتوالية والتهديد، بل إلى مشهدٍ آخر تهيمن عليه مناقشات وتساؤلات متبادلة، وعقول منهمكة في ما كلفت به، وأقلام تحفظ حصيلة التأمل والتفكير، والوقت المتاح يكفي لحدوث خبرة مكتملة وممتعة، إلى مشهد آخر يطمئن فيه المعلم إلى أن الأمور تسير بآليات ذاتية، وأن جهده لم يعد شرطاً لصيقاً بالعمل، بل إضافة نوعية عليه، وأن ما سينتج سيكون كافياً ولائقاً بالوقت المصروف. أخيراً لسنا في صدد التخلي الكامل عن خطوات الاستجواب، لا سيما في بعض عمليات التمهيد لمعرفة جديدة، أو بتأكيد معارف سابقة، وفي لحظات محدودة لا تتجاوز الدقائق الخمس في كل حصة، لكن من الضروري الإقلاع عن الاستجواب كنمط يستوعب معظم المادة والوقت، وبمعنى آخر ضرورة تجاوز الخطوات الإستجوابية، كطريقة ومنهج، لتحقيق أهداف تعلّمية جديدة بصورة كاملة.
(*) مدير الإشراف التربوي في مدارس الإمداد.