الشيخ يوسف سرور
الناس يقدمون على خطواتهم المختلفة، واتخاذ المواقف إما من منطلقات مبدئية، أو توخياً لمصلحة آنية، أو بطريقة عبثية غير مدروسة. في كل الأحوال، الناس منقسمون. وما يظّهر هذا الانقسام هو المنطلقات المتعددة، والغايات المتخذة من لدن أصحاب التصرفات والمواقف.
وبطبيعة الحال، يسهم السلوك والأسلوب في بلورة شكل الاختلاف. لكن، حتى الذي ينطلق من مبادئ ورؤى في مواقفه، قلّ من يصل إلى الكمال الحقيقي، فضلاً عن أصحاب المصالح الآنيّة والمتوهمة، ناهيك عن أصحاب المواقف العبثية وغير المدروسة. كيف يفقد الناس بوصلة الطريق نحو الكمال المنشود؟ نحو الكمال الحقيقي لا المتوهم؟ لذلك قصة طريفة، تبدأ مع بدء شعور الإنسان بوجوده كياناً قائماً، يظن نفسه مستقلاً تمام الاستقلال عن الأشياء والمحيط، فضلاً عن غفلته عن مبدئه. يصبح حينها يرى عناصر الوجود وجودات مستقلة، ويرى نفسه وجوداً مستقلاً بإزائها، ويشعر بمزاحمة مصالح هذه العناصر أو بعض هذه العناصر لوجوده أو لمصلحته. وكلما كبر الإنسان وترعرع. كلما اشتد إحساسه بالاندفاع نحو تحقيق الذات والحضور، كلما انخرط أكثر في لعبة مواجهة الأشياء وعناصر البيئة المحيطة.
في هذا المجال، قد يبلغ درجة ومستوىً من الشعور بالذات.. بالحضور. إلى حدٍّ تصبح منافسة الأشياء هي الهم الأكبر والشغل الشاغل، الذي يذهله عن أصل وجوده وعن غاية خلقه، فيغفل أحياناً عن الجادة، وقد ينكر أصل الوجود، إذا بلغ احتدام الغايات واشتباك المبادئ ذروته. ما الذي ينعش جذوة الوعي في النفوس النائمة!؟ من الذي يحيي القلوب الميتة، التي صيّرها الانحراف رميماً عفت معالمَ حياتها عواملُ الزمن!؟ من الذي يحرك العقول الخيّرة، ويبثّ فيها ريح العزم بعد أن أكلها صدأ الأيام والليالي؟! من الذي يهزُّ الضمائر المترنّحة التي احتجبت خلف طبقاتٍ هائلة من غبار الضياع، راكمها العسف، وكرّسها الضلال؟! من الذي يستعيد للناس بوصلة الطريق نحو الكمال اللانهائي؟ إنه الوصل المحفوظ في كنف الغيب، المنسوج وحياً بأنامل الغيب. إنه النداء الصادح في أعماق أعماق الوعي الإنساني. قل: هذه سبيلي... أدعو إلى اللَّه... إنه الصوت الملكوتي... المثقل بتجليات الكمال الإلهي، المتردد صداه في كل مديات الوجود، ناشراً آيات البشر بالتحاق الكائنات تكويناً بقافلة الكمال الإلهي اللامحدود إلى نهايات، أول معانيها نقطة البدء في كلمة "كن".
إنه المسحة الرحمانية التي تسبغها يد الغيب على عناصر الوجود، في رحلة البلاءات الممتدة من لدن الخروج من العدم إلى فضاء الخلق، استمراراً حتى بلوغ غاية الخلق... والتي لولاها لهلك الخلق... كل الخلق في مخاضات الحياة التي لا انقضاء لها حتى خط النهاية. إنه أول ولادة للحياة في عالم الممكنات، التي بها كان تناسل كل الممكنات، إنه بلسم جراحات الحياة، ودواء الندوب والأدواء العاملة في كل شيء... إنه البسمة المرتسمة على شفاه الحياة... التي تعدم رؤيتُها كلَّ حسرات الأحزان ومرارات الأشجان. إنه بوصلة عالم الإمكان... كل عالم الإمكان إلى كمالات الخلق المتصلة بمبدأ الوجود. إنه الهداية الربانية المرسلة لتأخذ بيد المخلوقين المحجوبين عن حقائق الوجود... لتفتح قلوبهم على المحبوب الأوحد... ولتفتح العقول على دقائق الأصول... وتنير الجوانب المظلمة، في سبيل تكوين الوعي المفضي إلى كمال لا محدود. إنه صاحب الحوض الذي يرأف بالضعفاء والمظلومين، ويسقيهم شربة لا يظمأون بعدها أبداً.