مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

الإيمان والثّقافة‏

د. حبيب فياض‏

 



ثمة علاقة تكامل بين الإيمان والثقافة، ذلك أن كل ثقافة سليمة يكتبها الإنسان، ضمن رؤية وتفكير موضوعيين، لا بد وأن تفضى إلى نزعة إيمانية تجعل الإنسان أقرب إلى إنسانيته المتسامية التي تجعله أقرب إلى اللَّه خالق الخلائق. كذلك، كل إيمان لا يتحصل من خلفية معرفية ثقافية سيظل بعيداً عن أداء الوظائف والأدوار كافة المترتبة عليه، باعتبار أن الثقافة بمعناها العام الذي ينطوي على المعرفة السليمة تشكل مقوماً للإيمان الذي ينطلق من معرفة اللَّه أولاً، والإلتزام بتعاليمه وأوامره ثانياً.

من هنا نجد أن ماهية الإسلام تتقوم بكونه منظومة معرفية (عقائدية وكونية وتشريعية)، بالإضافة إلى كونه ممارسة عملية تنبثق عن الالتزام بالتكليف والامتثال للأمر الإلهي، ما يعني أن المعرفة التي لا تؤدي إلى التزام على صعيد الممارسة لا يمكن اعتبارها سبباً كافياً للإيمان، كذلك، فإن الممارسة القيمية التي لا تكون عن معرفة وبيّنة، لا يمكن اعتبارها مستوفية للشروط المطلوبة إيمانياً... على هذا، نجد أن الإسلام الحنيف قد ربط على ما يقوم به الإنسان بالنيات، التي هي الأساس في كل شي‏ء. وبالتالي لا قيمة حقيقية لأي عمل لا ينطلق من نية التقرب إلى اللَّه. ولا يخفى أن نيّة التقرب منه تعالى هي نوع من المعرفة، ذلك أن التقرب من الشي‏ء متلازم مع معرفته، وأي اقتراب لا تصاحبه معرفة، لا يلبث أن ينقلب إلى جهل وانفصام وبعاد. وانطلاقاً مما تقدم، يغدو البُعد الثقافي في الشخصية الإيمانية شرطاً للمعرفة التي إن توفرت شروطها التي تضمن سلامتها وصحتها يفترض أن تتحول إلى منظومة أيديولوجيا تتكامل فيها رؤية المؤمن إلى ثلاثية: اللَّه، العالمَ، الإنسان. هذه الثلاثية تشكل المجالات المحورية لأية معرفة يصبو إليها الإنسان، اللَّه هو خالق الكون والحياة، والإنسان هو أشرف المخلوقات وخليفة اللَّه، والعالم هو الميدان الرحيب الذي يشكل محل امتحان الإنسان ومعبراً لوصوله إلى اللَّه. على هذا، ثمة فرق بين ثقافة المعرفة وثقافة الأيديولوجيا، فالأولى تبقى الفائدة منها محدودة في إطار الحياة الدنيا على أبعد تقدير، بينما الثانية من الممكن أن تؤدي إلى تشكيل رؤية كونية وجودية تطاول الحياة بشقيها الدنيوي والأخروي، شريطة أن تكون المعرفة الربانية جوهر هذه الرؤية...

فالثقافة الإيمانية: هي عبارة عن كل جهد معرفي يبذله الإنسان في سبيل مراكمة المعرفة المفضية إلى الحقيقة. وإذا عرفنا أن اللَّه تعالى هو المصداق الأتم والأكمل للحقيقة، يصبح كل جهد يقوم به الإنسان في هذا المجال بشكل ممنهج وهادف نوعاً من العبادة التي تتحكم بمساره، وتضبط حركته، وتضمن تمييزه بين ما هو حق وما هو باطل على مستوى الأفكار والمعارف والمعلومات. إن الوحي الذي جاء به الإسلام عبارة عن مجموعة من التعاليم الإلهية التي يتلقفها الإنسان، لتتحول إلى موجّهات لسلوكياته في الحياة، فالقرآن جاء متطابقاً ومنسجماً مع المعرفة البشرية السليمة المجردة عن الأهواء والنزوات النفسية، وبذلك يستطيع الإنسان بلوغ أقصى درجات العلم والمعرفة، من خلال الجمع بين الكتابين: كتاب اللَّه المنشور، وهو القرآن. ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ (الإسراء: 9)، وكتاب اللَّه المنثور، وهو الكون ﴿سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ (فصلت: 53).

وبذلك تتشكل ماهية الإيمان، حيث تقوم على المعرفة السليمة أولاً، والعمل بها ثانياً، وهو ما حث عليه الإسلام من خلال التأكيد على الجمع بين العلم والعمل. والملفت أن الإسلام لم يحصر تحصيل المعرفة الإيمانية بمصدر دون آخر، إذ إلى جانب الوحي، هنالك العقل والفطرة، إذ رغم أهمية الوحي فيما هو مصدر علوي في المعرفة فإن العقل إذا ما أُعمل بشكل سليم ومجرد عن المغالطات والنوازع والشبهات، سينتهي إلى ما جاء به الوحي، وكذلك فإن الفطرة التي هي محل الوجدان الإنساني، ستلتقي بالتأكيد مع الوحي والعقل، لناحية المفضيات المعرفية، ومن ثم الإيمانية التي تنتهي إليها. الثقافة الإيمانية، إذاً، تقوم على الجمع بين الوحي الذي جاء به الأنبياء، والعقل الذي حباه به اللَّه تعالى، وشرفه به عن سائر المخلوقات، والفطرة التي فطر الناس عليها، والتي لا بد لكل إنسان يعود إليها وينطلق منها في سيره وسلوكه، أن يصل في النهاية إلى حقيقة التوحيد، الذي يمثل أعلى مراتب المعرفة، وأرقى أشكال السلوكيات الإنسانية. فالثقافة عند الإنسان المؤمن هي أولاً من أجل المعرفة، معرفة الذات، واللَّه، والعالمَ من حوله، وهي ثانياً من أجل السعادة في الدنيا والخلاص في الآخرة.. لكن دون ذلك ابتلاءات كبيرة وامتحانات كثيرة... "كنت كنزاً مخفياً، فأحببت أن أعرف...".

إذاً علة الخلق والتكوين هي المعرفة، والمعرفة بحاجة إلى عارفين... "والعارفون في خطر عظيم".

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع