الشيخ نعيم قاسم
لا تخلو الأرض من الحجة، التي تتمثل بالمعصوم، نبياً كان أم إماماً. والإمام لا يخلو من حالتين، إمَّا ظاهراً أو مستوراً، وبذلك تبقى الحجة في الأرض على العباد، ليعبدوا الله تعالى حق عبادته، وتكتمل شروط المساءلة يوم القيامة. عن الإمام الصادق عليه السلام: "ولم تخلُ الأرض منذ خلق الله آدم عليه السلام من حجة لله فيها، ظاهر مشهور، أو غائب مستور، ولا تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجة لله فيها، ولولا ذلك لم يعبد الله"(1).
حجتنا في زماننا هو الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف في غيبته الكبرى. وهي غيبة لا نستطيع فيها التواصل المباشر معه أو رؤيته إلاَّ في حال إرادته لذلك، لكنَّه لا يفارقنا، ويحضر المواسم كموسم الحج، حيث يرى المؤمنين ولا يرونه، فعن أبي عبد الله عليه السلام: "للقائم غيبتان، يشهد إحداها المواسم، يرى الناس ولا يرونه"(2). إنَّ عدم رؤية المؤمنين له لا يعني عدم وجوده، فقد أخبرتنا الروايات بحضوره بطريقة مختلفة عن حضور أحدنا في حياته اليومية، أي أنه يكون غائباً عنا لكنَّه يرانا، حيث يريد، وحيث يحضر، فعن زرارة قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: "يفقد الناس إمامهم، يشهد الموسم، فيراهم ولا يرونه"(3). وقد أكد ذلك أحد سفراء الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف محمد بن عثمان العمري (رض) بقوله: "والله إنَّ صاحب هذا الأمر ليحضر الموسم كل سنة، يرى الناس، ويعرفهم، ويرونه، ولا يعرفونه"(4).
* هل يمكن الاستفادة من هذا الغياب؟
لقد أجاب الإمام الصادق عليه السلام سليمان (أحد أصحابه) عندما سأله: فكيف ينتفع الناس بالحجة الغائب المستور؟ فقال عليه السلام: "كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب"(5). فآثار الفائدة لا تقتصر على المشاهدة، بل تعم جوانب كثيرة، منها: الاطمئنان إلى وجود الإمام الذي يكون على يديه الفرج، ما يعطي الأمل الدائم بنصر دين الله تعالى، والتعلق بالقائد الذي يحقق السكينة النفسية عند أتباعه بحضوره ووجوده لقيادتهم في يوم ما، وتسديده للمؤمنين بأشكال مختلفة لا نعلمها ولا ندركها ولكننا نلمس نتائجها...
* أهل زمان الغيبة
ولا يخفى أن نموذج المؤمنين في زمن الغيبة، أفضل بشكل عام من نموذجهم في أزمان حضور المعصومين لأنَّ الغيبة تستبطن امتحاناً إضافياً في عدم الارتواء بالبركات والتوجيهات المباشرة لحضور المعصوم. ومَنْ صَبَرَ على هذا الامتحان، وقدَّم أفضل ما عنده مضحياً بالمال والنفس في سبيل الله، حصل على ميزة التضحية في غياب بعض محفزاتها، ومَنْ يُعطي من المؤمنين المجاهدين في زمان الغيبة، إنما يساهم أيضاً في مراكمة عطاءات المجاهدين لتعجيل الظهور، وهذه ميزة إضافية. ولولا تمايز هؤلاء المجاهدين، لما تصدُّوا للكفر والنفاق والظلم، على الرغم من قلة عددهم وعدتهم واستمروا حاملين لراية الإسلام المحمدي الأصيل. يروي أبو خالد الكابلي قائلاً: دخلت على سيدي ومولاي علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام، فقلت له: يا ابن رسول الله، أخبرني بالذين فرض الله عزَّ وجل طاعتهم ومودَّتهم، وأوجب على عباده الاقتداء بهم بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم... فقال له عليه السلام: "... ثم تمتد الغيبة بولي الله عزَّ وجل، الثاني عشر من أوصياء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة من بعده. يا أبا خالد، إنَّ أهل زمان غيبته، القائلين بإمامته، والمنتظرين لظهوره، أفضل من أهل كل زمان، لأنَّ الله تبارك وتعالى أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالسيف، أولئك المخلصون حقاً، وشيعتنا صدقاً، والدعاة إلى دين الله عزَّ وجل سراً وجهر"(6).
لقد شاهدنا بأمِّ العين شباب حزب الله يخوضون اللجج، ويواجهون الكفر العالمي، ويقدِّمون الملاحم الاسطورية في ميدان الجهاد في سبيل الله ضد العدو الإسرائيلي، ويثبتون حين تزلزلت الكثير من الأقدام، ولولا إيمانهم بالله تعالى ومنهج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وآل البيت عليهم السلام، وانتظارهم لظهور القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف لما أبلوا هذا البلاء، وقدَّموا هذه التضحيات، إنهم رجال الله حقاً وصدقاً، وكذلك المجاهدات المؤمنات من أخواتنا وأمهاتنا وبناتنا الصابرات المحتسبات على خط الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، فهنيئاً لمن تشرف بولاية صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، فهو في جهاده أفضل من أهل كل زمان.
(1) الشيخ الصدوق، الأمالي، ص253.
(2) الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص 339.
(3) المصدر نفسه، ج1، ص 337.
(4) الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج2، ص 520.
(5) الشيخ الصدوق، الأمالي، ص 253.
(6) الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ص 319.