الشيخ عمار حمادة
في غزوة بني المصطلق اختلف اثنان من المسلمين أحدهما من المهاجرين، من بني غفار، والآخر من الأنصار، من بني عوف من الخزرج، فاقتتلا، ثم اختلى كلٌّ بقومه. كان أحد وجهاء الأنصار، وهو عبد اللَّه بن أبي، في رهطٍ من قومه وفيهم زيد بن أرقم وهو حديث السن. فقال ابن أبي، مُخاطباً جماعته، "قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، واللَّه ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل: "سمِّن كلبك يأكلك. أما واللَّه لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ"، يعني بالأعز نفسَهُ وبالأذل رسول اللَّه صلى الله عليه وآله. فقام ذلك الحدث من قومه، زيد بن أرقم، وقال له: "أنت واللَّه الذليل القليل المبغض في قومك ومحمد صلى الله عليه وآله في عزٍّ من الرحمن ومودة من المسلمين، واللَّه لا أحبك بعد كلامك هذا". فقال له عبد اللَّه بن أبي وقد انكشف نفاقه: "أسكت فإنما كنت ألعب". فقام زيد بن أرقم إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله، بعد أن رجعوا من غزوة بني المصطلق، وأخبره بمقالة عبد اللَّه بن أبي، فأرسل الرسول صلى الله عليه وآله إلى عبد اللَّه فأتاه فقال له صلى الله عليه وآله: "ما هذا الذي بلغني عنك؟" فقال عبد اللَّه: "والذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئاً من ذلك قط، وإنَّ زيداً لكاذب" ثم قام من حضر من الأنصار وقالوا: "يا رسول اللَّه شيخنا وكبيرنا فلا تصدق عليه كلام غلام من غلمان الأنصار". بلغ عبد اللَّه، ابن عبد اللَّه بن أبي، ما كان من أمر أبيه، فأتى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وقال له: "قد بلغني أنَّك تريد قتل أبي، فإن كنت لا بد فاعلاً فمرني به أحمل إليك رأسه...". فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: "لا بل ترفق به وتحسن صحبته ما بقي معنا".
ولكن كرد فعل على عمل عبد اللَّه بن أبي خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وآله من المدينة بالمهاجرين فلاقاه جمع من الأنصار وردّوهم. وكان عبد اللَّه بن أبي خارج المدينة لفترة من الزمن ولما أراد دخولها جاءه ابنه وقال له: "لا تدخلها إلا بإذن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ولتعلمنَّ اليوم مَنْ الأعز ومن الأذل". فشكا عبد اللَّه ابنه للرسول صلى الله عليه وآله، فأرسل إليه أن خلِّ عنه يدخل، فقال: "أما إذا جاء أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فنعم" عندها دخل عبد اللَّه المدينة وجاء إليه الأنصار وقالوا له: "إذهب إلى رسول اللَّه يستغفر لك" فلوى رأسه معرضاً وقال لهم: "أمرتموني أن أؤمن فقد آمنت، وأمرتموني أن أعطي زكاة مالي فأعطيت، فما بقي إلاَّ أن أسجد لمحمد صلى الله عليه وآله". فنزلت الآيات: بسم اللَّه الرحمن الرحيم ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (المنافقون: 5 - 8).
* المعاني المباشرة للآيات
ذكر المفسرون(1) أنَّ هذه الآيات والتي سبقتها من سورة "المنافقون" تتحدث عن مميزات هذه الظاهرة الأخلاقية الاجتماعية التي كانت موجودة في صدر الإسلام والتي سُمِّيَت بالنفاق. حيث تخاطب رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قائلةً له أنَّ من كانت هذه صفاته إذا قيل له تعالَ إلى الرسول ليستغفر لك اللَّه على ما تناولته به من كلام سيئ فإنَّه عوضاً عن أن يستغفر اللَّه ويأتي إلى الرسول ليعلن عن احترامه واتباعه له فإنَّه يبدأ بتحريك رأسه استهزاءاً بهذه الدعوة ويميل بوجهه إعراضاً عن الحق وكراهةً لذكر النبي صلى الله عليه وآله. ولأنَّ ردَّ فعل هؤلاء هو على هذا الشكل فإن استغفار الرسول صلى الله عليه وآله لهم لا ينفعهم، لأنَّ اللَّه لن يغفر لهم طالما يحملون هذه الذهنية. ثم قال سبحانه إنَّ هؤلاء المنافقين يدعون إلى عدم دفع الأموال إلى الفقراء من المؤمنين بالرسول صلى الله عليه وآله وذلك حتى يتفرقوا عنه ويتركوا دينه، متناسين بذلك أنَّ خزائن السماوات والأرض بيد اللَّه يستطيع أن يغنيهم ولكنه يمتحنهم بالفقر. ثم ترد الآيات على مقولة رئيس هؤلاء المنافقين بأنَّ العزة الحقيقية للرسول بظهور دينه على الدين كله وللمؤمنين به بالنصر ودخول الجنة. ولكن هؤلاء المنافقين يجهلون أن العزة الحقيقية هي للَّه يعطيها لمن يشاء ويظنون أن العزة لهم بالمال والجاه والمكر الخفي.
* المعاني المستفادة من الآيات
نستطيع اتخاذ عينات من تصرفات المنافقين وكوامن نفوسهم من تعابير هذه الآيات، وهذه العينات تصلح لاستنباط مميزات عامة تميزهم عن المؤمنين في كل زمانٍ ومكان، مما يسهِّل عملياً التعرُّف عليهم وكشف مؤامراتهم. ومن المميزات التي تهمنا هنا تلك الميزة التي رافقت حركة النفاق منذ نشأتها والتي شكلت القاسم المشترك لمعظم مؤامرات تلك الحركة في سعيها الدؤوب لصد الناس عن اتباع الرسل ونصرة الدين السماوي. وهذه الميزة هي اعتماد تيار النفاق كثيراً على تأثير عامل المال في النفوس، فالمنافق الذي لا يؤمن بالرازقية الإلهية يعتبر أن العامل الأهم الذي يشد الناس إلى الدين وإلى خط الأنبياء عليهم السلام هو العامل الاقتصادي. من هنا نجد أن المنافقين في تخطيطهم لحرف الناس عن الدين يعتمدون أسلوب قطع الرابطة الاقتصادية بينهم وبينه وعندما لا يعود الدين مصدراً لمعاشهم فإنهم سيتركونه وسيتبعون من يؤمن لهم دنياهم وهنا يعرض تيار النفاق نفسه ليكون المنقذ والقائد في المجتمع.
* الاستفادة المعاصرة من الآيات
وفي هذا العصر بلغ النفاق ذروته في الاستفادة من العامل الاقتصادي لحرف الناس عن الدين، ولهذا الأمر تجليات كثيرة نقتصر هنا على ذكر واحدة منها: الشعب الفلسطيني المجاهد والمضحي، والذي جرّب جميع المدارس الفكرية والسياسية والنضالية في سعيه لتحرير أرضه واستعادة حقه، وصل إلى نتيجة واضحة وحاسمة تتمثل بأنّ الإسلام الجهادي هو المنهج الوحيد الذي يضمن له تحقيق أهدافه هذا عدا عن أنَّه هو المنقذ في الآخرة ولذلك فإنَّه بايع الحركات الجهادية الإسلامية لتكون هي قائدة نضاله وسعيه إلى التحرير. وبعد الانتخابات التي جاءت لتؤكد هذا الخيار ولتضعه في حيز التنفيذ قامت قيامة دول العالم كلها علناً ووقفت بوجه هذا الخيار، ولما لم يستجب الشعب الفلسطيني للضغوط السياسية والتهديدات، عادت ظاهرة النفاق إلى أصولها لتستعمل نفس أساليبها السابقة من أجل الفصل بين الناس ودينهم، فقامت تلك الدول التي تمثل النفاق العالمي في هذا العصر وأعلنت حصارها المالي للشعب الفلسطيني، معيدةً إلى الأذهان المؤامرات السابقة التي تتوسَّل العامل الاقتصادي كسلاح (وعد بلفور مثلاً ودور المال اليهودي في إعطائه، وحصار إيران بعد الثورة و... الخ) في ليّ إرادة الشعوب وفي محاربة الخط الإلهي على هذه الأرض. وبالتالي من يريد أن يعرف حقيقة الأمر في سياسات هذه الدول عليه أن يدرس ظاهرة النفاق في تاريخ البشرية ليجد أنَّ هذه الدول وإن تطور ظاهرها التقني إلا أنها بجوهرها ما زالت في جاهلية جهلاء وتخلف إنساني سحيق.
(1) مجمع البيان للطبرسي، ج7، ص285.