المجاهد الجريح جعفر محمّد حسن (جواد)
وبدأتُ أحضّرُ نفسي للعبور إلى العالم الآخر. كرّرتُ بهدوءٍ شهادة الموت. لا مناص من هذه اللحظة. استبدّ بي الوجع وأنا محشورٌ أجمعُ جسدي خوفاً من الرصاص المنصبّ علينا حِمماً في أرض السيّارة بين المقعدين الأماميّين، والمقعد الخلفيّ الذي استلقى عليه رفيقي المُصاب، ودمه يقطر عليّ. هكذا هو ضيقُ القبرِ -فكّرتُ في نفسي- وأنا أستحضرُ ما سيحصلُ معي بعد أن تغادر روحي جسدي.
•"ستنتظرني، ولن أعود"
استسلمتُ للوجع، وأغمضتُ عينَيّ. لقد وقعنا في كمينٍ محكم ولن يصل إلينا أحد. ولاح على حين غرّة شوقٌ إلى وجه أمّي. تذكّرتُه وأنا أحضنها بشدّة مجهشاً بالبكاء لمّا دوّى انفجار في مرآبٍ في بئر العبد في العام 2013م. يومها، كنّا على الهواء ننقل بثّاً مباشراً، فتركتُ عملي وأنا أصرخُ: "أمّي"! طويتُ الأرض ووصلتُ إليها: "أنتِ بخير؟". ابتسمتْ، فعادتْ إليّ روحي. أمّا الآن، فستنتظرني، ولن أعود.
•ألوان الحياة
وبدأت الأفكار تتجاذبني وأنا تحت مزراب من دم رفيقي. لم يخطر لي أنّ علاقتي بالتصوير -الهواية التي امتهنتها إلى جانب دراستي- ستُقطع أواصرها يوماً، وستعود إلى ما كانت عليه مجرّد "هواية". بين عيني والعدسة ويدي والكاميرا، ألوان حبّ وحياةٍ التهمتها أطراف ثياب محروقة وأشلاء ودماء. حربٌ غاب فيها أكثر من أربعين شابّاً من رفاقي، ومنهم من ينتظر، وما بدّلوا.
•"شهيدٌ في سبيل الله"
في الصف التمهيديّ، حين سألتني المعلّمة عن طموحي عندما أكبر، أجبتُ باختصار: "شهيد في سبيل الله". لم يكن جوابي اعتباطيّاً، فعلى الشرفة الضيّقة لمنزلنا في بئر العبد، كنتُ أتدرّبُ على النظام المرصوص، وأحضّر نفسي طوال العام للمشاركة في عرض يوم القدس العالميّ الذي أنتظره من سنة لأخرى. كبرتُ، تهاوت شرفة بيتنا في حرب تمّوز 2006م، ولكنّها عادت أجمل ممّا كانت. والعرضُ الذي تحوّل إلى احتفال، أبقى القدس هي القضيّة والوجهة، وسيظلّ طموحي: "شهيد في سبيل الله". إذاً، نحن أقوى من كلّ شيء.
•نشيد الثورة
درستُ الإدارة، ولكنّ حبّي للتصوير دفعني إلى الاحتراف، احترافٌ تحوّل إلى احتراق وأنا أتنقّل بعدستي من مشهد انفجار إلى آخر. دموع ونار وقهر. حقدٌ بشريّ دائم التغلّب على نفسه.
لمّا توجّهتُ مع الفريق إلى سوريا لتغطية الأحداث هناك، تقرّر مكوثنا عشرة أيّام، ولسببٍ جهلته، شعرتُ أنّي سأعود بسرعة. كان "حمزة" (الشهيد المراسل حمزة الحاج حسن) طوال الطريق يستمع إلى أناشيد ثوريّة قديمة: "امضِ وزلزِل عروش الطغاة"، "جبل الأبطال الأشراف". وكلّ واحد منّا تحمله الكلمات إلى عالمه الخاصّ.
•أنيابُ الباطل
سرعان ما تقشعت أمامي حقيقة شعوري. بعد أن وقعنا في مرمى نار تكفيريّين تسلّلوا إلى منطقة محرّرة، فاستشهد عدد من الفريق، وأنا انتظرتُ حتفي مع من أُصيبوا. الدقائق تمرّ كالساعات، والرصاص لم يعطنا فرصة للتحرّك.
لم أصدّق أنّ أحداً ما سيستطيع الوصول إلينا. عندما سمعتُ همهمات تقترب منّا، أغمضتُ عينَيّ حتّى لا أرى وجه من سيحزّ رأسي، ولكن سرعان ما تمّ سحبنا من السيّارة. إنّهم أصدقاء! أخذتُ نفساً عميقاً. انفصلتُ عن رفيقي، فيما بقيتُ مع مجموعة أختبئُ في مكان يطلُّ مباشرة على جثمانَي رفيقَيّ اللذين لشدّة النزف كدّت ألتحق بهما. حدّقت بهما، ولوهلة تجمّد الزمن، وكأنّ الحياة صارت صورة فوتوغرافيّة عزْفُها الوحيد نبض قلبي. كم أنبت الباطل من أنيابٍ لينهش الحقّ؟! كنتُ هناك، وكانت الحياة تصارعُ لأجل البقاء، فانتصرت الحياةُ، ونجوتُ.
•صلاة الشكر
تقطّعت أربطةُ مفصل قدمي، ولم أعد أقوَى على السير. وما إن هدأت الاشتباكات قليلاً، نُقلت إلى المستشفى، وسرعان ما توجّهت إلى بيروت، وتمّ تعليق وحدات دم لتعويض النزف الشديد.
كان أبي قد صلّى ركعتَي الشكر لله على ما أصابه، بعد أن أُبلغ بأنّ الاتصال مع وحيده قد فُقد، وأنّ الفريق وقع في كمين مُحكم. ثمّ طلب من أمّي، التي انهالت عليه بأسئلة لا إجابات عنها، فِعلَ ذلك. بدأ الناس يتوافدون إلى المنزل للعزاء، إلى أن اتّصلتُ بهما. قالت أمي: "أنتَ بخير؟"، ابتسمتُ، لقد عادت إليها الحياة.
•وجه حياةٍ انتصرت
لم تستطع العمليات الجراحيّة أن تعيد مشيتي إلى طبيعتها، وعليّ الالتزام بأخذ دواءٍ بشكلٍ دائم. تركتُ مهنة التصوير لعدم قدرتي على الوقوف، ولكنّني أكملتُ دراستي، وخضعت للامتحانات الرسميّة في المهنيّة وأنا مصاب. وها أنا أُكمل حياتي في عملٍ إداريّ، ولكنّ اللقطة الأخيرة التي التقطتها لا تبارح ذاكرتي: وجها حمزة وحليم (الشهيد المصوّر حليم علّاو)، وجها حياة انتصرت، وستنتصر.
(*) مقتبس من برنامج (بوح الجراح)، إعداد الكاتبة نسرين إدريس قازان.