موسى حسين صفوان
عندما سمع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بعض الخوارج يقول في مسجد الكوفة: "لا حكم إلا لله" بادر بالقول: كلمة حق يراد بها باطل... ربما كان ذلك هو الحال بالنسبة لما ينطلق اليوم وبصوت مرتفع من دعوات لتبني ثقافة الحياة. فالدعوة إلى ثقافة الحياة شعار جيد يُتهم من يواجهه. كيف لا، والأمم إنما تسعى في كل مراحل حركتها للحياة وإثبات الوجود؟ إلا أن الذين يدعون لثقافة الحياة وهم يعنون بها النموذج الغربي على وجه التحديد، وسواء كانوا من المثقفين أو السياسيين فهم ينطلقون من حيثيات وحسابات سياسية تارة، ومذهبية أو طائفية تارة أخرى.
ولعل من نافلة القول الدخول في تفاصيل كل ما يجري لإثبات ذلك، غير أننا نستطيع أن نقرأ باختصار نمطين من الخطاب السياسي، أحدهما في مجتمعاتنا العربية، وخاصة المحيطة بفلسطين وتتصدره من جهة الدعوات لاحترام الشرعية الدولية، والضمانات الدولية، ونزع السلاح من جهة، والتركيز على الحساسيات المذهبية والمناطقية، وتسخيف الخطاب السياسي من جهة أخرى. من جهة أخرى، تشاع صيحات الإنذار من الخطر المشرقي ويرافق ذلك موجة عارمة من التسلح، وتصعيد في المواقف السياسية والثقافية وما إلى ذلك. في المقابل، يركز الخطاب السياسي الغربي على الدعم الوقح والمباشر لإسرائيل، واتهام المقاومة بالارهاب، والدعوة المباشرة لنزع كافة عناصر القوة من الأمة، ومواجهة ثقافة المقاومة بثقافة الاعتدال، وسياسة تسلط العناصر الموالية للغرب تحت عنوان الديمقراطية. والغريب أن العديد من المثقفين العرب يركبون الموجة لحسابات خاصة بهم، ويدسون رؤوسهم في الرمال ليدافعوا عن المشروع الغربي. فإذا حدثتهم عن خطر العدوان الإسرائيلي على غزة أو جنوب لبنان، يحدثونك عن الميزان التجاري العالمي والدور العربي فيه. وإذا حدثتهم عن خطر الغزو الأمريكي للعراق، يحدثونك عن أسعار البورصة العالمية، والمشاريع والمهرجانات الفنية. هؤلاء ليسوا أغبياء، إنهم يعرفون الحقيقة، ولكنهم يراهنون على المشروع الاستكباري لحساب مشاريعهم الأنانية. وبعيداً عن كل ذلك الهراء... ربما كان من المناسب أن نتعرف فعلاً إلى ثقافة الحياة في الإسلام، من حيث هي كلمة حق يراد لها في أيامنا أن توضع في غير موضعها. وفي هذا المجال نقف عند النقاط التالية:
* أولاً: الدعوة الإسلامية في الأصل هي دعوة للحياة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ (الأنفال: 24). ومفهوم الحياة في الثقافة الإسلامية ينطلق من مفهوم التوازن بين الحياة الدنيا والآخرة، يقول تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون﴾ (الأعراف: 32). فالطيبات في الحياة الدنيا مباحة للمؤمنين، أما الذين يدعون إلى ثقافة الحياة التي تتجاوز إلى المحرمات، فالله سبحانه يقول لهم: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ (الأعراف: 33). وكما نحترس من الجراثيم و(الميكروبات) التي تسبب الأمراض والأوبئة الصحية، كذلك يجب علينا أن نحترس من الفواحش والإثم والبغي التي تجلب الأوبئة الاجتماعية والنفسية وتؤدي إلى الانحرافات السلوكية، وهذا يتناقض أصلاً مع ثقافة الحياة. وبقي أن نؤكد ونحن نتحدث عن مفهوم الحياة في الثقافة الإسلامية على مبدأ التوازن بين العمل للحياة الدنيا، والعمل للآخرة، قال تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ (القصص: 77).
* ثانياً: مسألة العقاب: تعرّض النظام الجنائي في الإسلام لكثير من الانتقادات، باعتباره فرض حدوداً صارمة لبعض الجرائم الفردية والاجتماعية. ولو أمعنا النظر في حسنات وسلبيات هذه الحدود والإجراءات الصارمة، لوجدنا أن الإسلام بما هو دين الله الخالق الذي هو أدرى بما خلق أوجد أجواءً من الأمن الاجتماعي، والأنماط السلوكية التي حفظت المجتمع لمئات السنين من الأمراض النفسية والاجتماعية والأوبئة الصحية. ولعل بعض ما يطلق عليه أمراض الحضارة، ما هو إلا نتيجة الفساد والانحراف السلوكي الذي يتناقض في نتائجه مع فلسفة الحياة، ليصبح القصاص كما قال عنه سبحانه وتعالى نمطاً من أنماط الحياة، قال تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ (البقرة: 179).
* ثالثاً: مسألة الجهاد: كغيره من المسائل الإسلامية، تعرض مفهوم الجهاد لأصوات مرتفعة من المنتقدين خاصة من المستشرقين. وبغض النظر عن الخلفيات الدينية، أو السياسية التي انطلق منها أولئك، فإننا نرى في مفهوم الجهاد في الإسلام، نظاماً اجتماعياً ضرورياً لحياة المجتمع، تماماً كضرورة نظام المناعة في جسم الإنسان. ومن أجل ذلك أكد الإسلام على مفهوم الجهاد، ومعه مفهوم الشهادة كمبدأ أساسي من مبادئ ثقافة الحياة في الإسلام، قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (آل عمران: 169 170) إلى أن يقول: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ (آل عمران: 172). ولاحظ هنا قوله تعالى الذين استجابوا... وفي الآية السابقة من سورة الأنفال قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ...﴾ وهكذا يكون الجهاد من أسباب الحياة.
* رابعاً: مسألة الكرامة: هذه المسألة مهمة جداً في الإسلام. فالإنسان المؤمن لا يكون إلا عزيزاً، يقول تعالى: ﴿... َلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (المنافقون: 8). وروي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: "إن الله فوض إلى المؤمن أموره كلها ولم يفوض إليه أن يكون ذليلاً، أما تسمع الله تعالى يقول: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ فالمؤمن من يكون عزيزاً ولا يكون ذليلاً"(1). ولعل زبدة الكلام في هذا المجال كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام حيث قال محرضاً المسلمين على الجهاد: "... فالموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين"(2). وحاشا أن يدعو علي عليه السلام إلى الظلم والقهر، بل إن دعوته لرفع الظلم حيث منع جيش معاوية الماء عن جيشه، فقال لهم: "رووا السيوف من الدماء ترووا من الماء..."(3). وهذا النموذج من ثقافة الحياة، يمكن أن نطلق عليه عنوان الحياة بكرامة، حيث يعيش المسلم عزيزاً كريماً، فإذا تعرض للظلم والطغيان أبى الظلم والضيم، ودافع عن نفسه، حتى لو كانت النتيجة الشهادة كما حصل مع أبي عبد الله الحسين عليه السلام في كربلاء.
وبقيت مسائل كثيرة يمكن أن تقال في هذا المجال نقتصر منها على مسألة واحدة، وهي أن المنظمات الثورية الإسلامية تتحمل مسؤولية كبيرة في طرح الإسلام الثوري طرحاً حضارياً تنأى به عن صور الإرهاب، وتقارب مفاهيم العدالة وحقوق الإنسان والاستنارة، وذلك من أجل أن تتمكن من مواجهة التحديات الثقافية والسياسية والوجودية التي يتعرض لها الإسلام في هذه الأيام.
(1) العلامة الحلي: منتهى المطلب، ج2، ص997.
(2) نهج البلاغة، ج1، ص100، خطبة 51.
(3) المصدر نفسه.