الشيخ يوسف سرور
سوداء كانت الذّكريات السالفة، كانت البيادق تحتشد متراكمةً فوق كل صعيد، متراكضةً في تزاحمٍ لتملأ كل الزوايا.. تتضافر العوامل في احتشاد مفتعل، وتتوافد الغايات لتأتلف في سياقٍ غير بريء.. جرت مقادير الزمان في منحى يخالف إرادات المستضعفين من أهل الأرض، وانسابت متدحرجةً لتصب في خانة المتربصين معلنةً عن وعود غير المالكين، بأن يعطوا ما لا يملكون، قطعةً من جسدٍ منهكٍ، يتهالك في تداعٍ مريع.. إلى نَفْثَة الأبالسة، خيوط أحابيل الشياطين المبعثرة في جهات الأرض الأربع.. لتجتمع في حركة التفاف رشيقة، متجسدةً حبلاً غليظاً يمسك بطرفه أبالسة الأرض، يجرُّ كل الجسد المنهار، بكافة أعضائه وأطرافه، معلنين الانتصار الكبير بضربةٍ قاضيةٍ، لا حاجة معها إلى احتساب النقاط الفائضة.
يهوي الشيطان بالطرف الآخر من هذا الحبل على الجسد المنهار، محاولاً القضاء على ما تبقّى فيه من روح، جاهداً في تبديد ما فيه من أمل، ملحِّاً في طلب إعلان استسلامٍ وتسليمٍ أبديين، لا قيامة بعدها للأموات المنهوشة أطرافهم، المسلوبة حريتهم، المطعونة كرامتهم، المنتهكة حرمتهم... لا حياة بعدُ.. لا حياة. تلبّدت الغيوم في فضاءات المكان، غير مؤذنةٍ بأمطار الخير، بل حاجزةً خيوط النور عن التسلل والانتشار في مَدَيَاتنا، سادّةً الآفاق على الناس الطيبين، الذين أخلصوا للأرض وأعطوها حبات قلوبهم.. فبادلتهم الوفاء وأعطتهم من صفوة خيراتها.. محتضنةً أهلها.. حانيةً على آبائهم في عناقٍ أزليٍّ أبديٍّ.. سرمديٍّ، لا يقبل الانفكاك ولا الانفصام.. أظلمت آفاق القلوب، وتجهّمت قسمات الوجوه، بعد احتكام البيادق إلى محكمة ضمائرهم الموصدة أبوابُها.. فقتلت الآباء والأبناء، وأطاحت الأحقاد بكل الآمال المبثوثة في آفاق البلاد، ولكنها لم تنل من عزائم أهل الأرض، ولا من إخلاصهم لأرضهم وعشقهم لترابها. أطبقت الظلمة واشتدت حلكتها، على من تبقّى من الأهل الذين يمّم سوادُهم ناحية أهلهم في الجوار، حاملين في جيوبهم مفاتيح الديار.. وفي قلوبهم حبَّ الأرض والمساكن... والحقدَ على من احتلَّ الأرض واستوطن الديار... انسدلت ستائر الأيام على أمرٍ واقعٍ عصيٍّ على التفهُّم والقبول، عند ذوي الحجى وأصحاب العقول. مع انسياب الزمان في حركة غير متهاونة، تتالت الويلات وتتابعت الخيبات..
كثُر العويل حول جثة من ظُنّ أنه قتيل، اشتدت أنغام سنابك الحرب من حوله وعلا الصهيل... خفقات قليلة من أطراف الجسد المنهار، تُعاجَل بالضربات الناقمة، طلباً لإعلان الموت الذي رآه الواهمون قدراً محتوماً، ورآه أهل الحياة لهؤلاء سراباً موهوماً. جاء من أقصى المدينة رجلٌ يسعى، قال: يا قوم، اتبعوا (الحسين بن سيِّد) المرسلين.. اشتعلت قلوب المحبين الحسينَ.. نافثةً لهيب الأيام المتمادية في لهوات أتونها الوامض في الآفاق المظلمة، شاقّةً صفحة العتمة، إيذاناً في انفجار الغضب الحسيني الموعود، الساكب لظاه على أشباح البيادق، الناشر حممَه على خيوط العناكب.. نجيع الحسين يجري دفّاقاً، يحيي قلب الجسد المنهار، ينعشه بخفقات أهل الحياة.. لاعناً كلَّ ثقافات الموت، ممجّداً... ناشراً.. ملقّناً.. فارضاً أسمى ثقافةٍ للحياة.. مرت السنوات، تتالت الضربات.. وصدُّ الضربات، في احتدام محموم للآمال المتناقضة، واشتباك مجنون للأحلام المتناهضة. أقبل أيَّار أيها المراهقون الحالمون.. الناظرون ليلاً للمستضعفين لا انقضاء له.. في أيَّار بدأت أحلام الرعاديد بنسج خيوط عناكبها حول الجسد المنهار.. وفي أيَّار أعلن صبحُ الحسينيين تبديد الظلام في الآفاق.. صابغاً لحظات الصباح... بل كلَّ اللحظات.. بلون الحسين الأبدي.. رافعاً قبضة الجسد الذي أعلنوا موته، وأقاموا مراسيم جنازته... يا لهم من حمقى..! أيّار 2008.. ستون مضت، معلنةً لحظة التوثُّب المدفوع بالغضب الأبدي.. مؤكّدةً حياة الأمة التي أحبت الحسين، وعشقت درب الحسين.. وأنّ العناكب التي توهّمت أسرَ الجسد المنهار بخيوطها الكثيفة، آتٍ يقينُها بأنّ انفجار البركان القادم سوف يسحقها بالضربة القاضية، ويمزّق خيوطها.. من غير حاجةٍ لاحتساب النقاط الفائضة...