د. حسن سلهب
تراجع الجدال حول ضرورة التحضير. وتخلى معظم المعلمين لا سيما القدامى منهم، عن موقفهم الاعتراضي على جدوى هذا الجهد. وبدا للمعنيين بالتعليم أن التحضير لم يعد مقتصراً على استذكار المضمون أو ضبط المعلومات، ولكنه عملية تخطيط تركز على الهدف والطريقة وتقييم النتيجة بشكل يتجاوز بحجمه وأهميته كل أنماط التحضير السابقة القائمة على المضمون.
1 - غاية ودور التحضير
إن غاية التحضير اليوم تبحث في ضمان التعلُّم الفعلي للتلامذة، وليس في ضمان صحة أو كفاية المعلومات المعروضة عليهم. فما يشغل بال القيمين على التعليم، أو القائمين به، يتجاوز المادة إلى المنهج. وإذا كان بعض المعلمين يمتلكون مستويات عالية من الذاكرة تجعلهم بمنأى عن العودة إلى المادة على الدوام، فإنهم مضطرون للبحث دائماً في المنهج الأنسب لضمان التعلُّم الفعلي عند التلامذة. وقضية المنهج مفتوحة لا تخضع للتنميط أو النمذجة، وبالتالي للحفظ أو التكرار. وإذا كان من العبث أن يقف الممثل على المسرح ليلعب دوره بلا تصور مسبق عن موضوعه، فإن حال المعلم الذي يرتجل طريقته لا تختلف كثيراً عن حال هذا الممثل. لقد انتقل دور التحضير فعلاً من مادة التعليم إلى التعليم نفسه، وغدا يجيب على أسئلة ما كانت تخطر ببال المعلم، إلا في لحظة وقوفه أمام تلامذته داخل الحجرة الصفية. ففي السابق، كان جل ما يعتني المعلم بتحضيره يتمحور حول سؤال: ماذا أعلِّم؟ أما الآن فقد غدا التحضير مسؤولاً عن ثلاثة أسئلة رئيسة: وهي ماذا سيتعلم التلامذة في نهاية الحصة؟ وكيف ستتم عملية التعلم؟ وكيف أتحقق من حدوث التعلُّم؟ وإذا كان التحضير السابق مهتماً بما سيقوم به المعلم، فإن التحضير اليوم يغلب على اهتمامه دور التلميذ، وبالتالي بما سيقوم به خلال الحصة.
2 - مكونات التحضير
إذا استثنينا الملحقات وبعض الإضافات التي لا توجد على الدوام، فإن أركان التحضير الأساسية هي: الهدف، الطريقة، التقييم. والهدف هو كل معرفة أو مهارة أو قدرة مقررة في المناهج الدراسية مُصاغة بلغة تفيد بأن التلميذ سوف يتمكن في نهاية أعمال الدرس من اكتسابها بشكل قابل للملاحظة أو القياس. مثال: سوف يتمكن التلميذ في نهاية الحصة من تحديد مواقع القارات على خريطة العالم. والطريقة هي مجمل الخطوات التي من المقرَّر أن ينجزها التلميذ أو المعلم لتحقيق الهدف المرسوم. فإذا كان الهدف تحديد مواقع القارات على خريطة العالم، فإن الطريقة هي كل الخطوات التي سيسلكها التلميذ لتكوين تصوُّره الذهني عن الجهات الأربع لخريطة العالم، والمساحات والخطوط الخاصة بكل قارة، وبالتالي إنجاز تطبيقات متدرجة ومتكررة فيها. وربما كانت الملاحظة والمقارنة أبرز الأنشطة الذهنية التي سوف يُكلَّف بها التلميذ في هذا المجال. أما التقييم، فهو أداة المعلم للتثبت من تحقق الهدف بشكل فعلي. ذلك أن الاكتفاء بالإشارات المرسلة من قبل التلامذة، وبالتالي الانطباعات عند المعلم، لم يعد أمراً مقبولاً. وبدل أن يكتفي المعلم بعدد الأصابع المرفوعة، أو بعدم وجود أي سؤال، أو حتى بتصريح التلامذة بأنهم اكتسبوا المطلوب، فإنه ملزمٌ ببيان الوضع الجديد لتلامذته بشكل واضع وموثق، وبصورة خطية ما أمكن. وفي مثالنا المذكور قد يكون من الأجدى تزويد التلميذ بخريطة فارغة للعالم يحدّد عليها مواقع القارات.
ولا بد من التأكيد على ضرورة وجود التناسق والتماسك بين المكونات الثلاثة هذه، والعبرة في ذلك تكمن في مدى واقعية الهدف أولاً، ثم مستوى كفاية الطريقة له، وبالتالي مستوى مصداقية التقييم في تحقق الهدف. يبقى الحديث عن المادة المعرفية وهو أمرٌ مرتبط بمستوى حضورها في ذهن المعلم، حيث يضطر البعض لتدوين نسبة كبيرة من المعلومات، لا سيما في الدروس التي يكثر فيها ذلك. لكن ما نود الإشارة إليه في نهاية الحديث عن مكونات التحضير هو الوسائل التي يتم تحضيرها في إطار الاستعداد العام للدرس، كالمجسمات والرسوم والخرائط واللوحات، فضلاً عن العرائض والشرائح والشفافيات وغير ذلك. على أن أهمية هذه الوسائل تتضاعف أو تنحسر تبعاً للمنهج الذي يعتمده المعلم في عرضها، وبالتالي استخراج النتائج المرجوة منها. ولا شك بأن التحضير لطريقة الإفادة من الوسيلة لا تقل أهمية عن الوسيلة نفسها، من هنا ضرورة لحظ طريقة التعامل مع الوسيلة ضمن الخطوات العامة المرسومة للحصة.
3 - واقعية التحضير
فالتحضير المطلوب إذاً لا يكتفي بتوفير المادة، أو تجهيز التقنية، بل بتحديد الأدوار ورسم المشاهد التي سوف تتم داخل الحجرة الصفية. ولا نبالغ إذا قلنا بأن دور المعلم في التحضير أصبح قريباً من دور معد السيناريو في التمثيل. وبالرغم من أن المعلم سوف يلعب دوراً مؤثراً داخل الصف، إلا أنه لا يبدو محوراً للعيان. فالأحداث الرئيسة للحصة التعليمية (حل معادلة، استنتاج قاعدة، إعداد نص، رسم خريطة،...) تتم على أيدي التلامذة وبأقلامهم وأوراقهم، وعلى مسطحات مقاعدهم. وإذا كان المشهد العام للحصة يغلب عليه انهماك التلامذة بأعمالهم، فإن التحضير هو التصوُّر المسبق لهذا المشهد بكل مكوناته وإنجازاته المتوقعة، وأوقاته المستهلكة. يمكن القول بأن خلفية التحضير السابق كانت قائمة على مبدأ ماذا ينبغي أن يحدث في الصف؟ إلا أن خلفية التحضير اليوم تقوم على مبدأ ماذا سيحدث فعلاً في الصف؟ من هنا ضرورة المطابقة الإجمالية بين المرسوم على دفتر التحضير والمنجز داخل القاعة الصفية، من دون أن يعني ذلك استبعاد الارتجال أو الابتكار في لحظات عديدة مؤاتية. لكن الاتجاه العام هو في الالتزام الملحوظ بالخطة أو التصورات الموضوعة، وإلا يفقد التحضير اتصاله بالواقع، ويغدو عملاً موجهاً للمسؤول لنيل رضاه، وليس للتلامذة كما هو المفروض. لقد انتقل التحضير من كونه استعداداً عاماً للمعلم إلى مرحلة جديدة غدا فيها مؤثراً مباشراً في معظم المجريات الصفية. لقد انتهى الوقت الذي كان فيه المعلم يرتجل القسم الأكبر مما سيحدث في الصف. وبلغ من اهتمام المعنيين بالتعليم ونتائجه أنهم حريصون على أن لا تتم أي خطوة من دون دراسة مسبقة. ويكفي في هذا المجال القول بأن معظم الموارد المتاحة (عقول التلامذة، وقت الحصة، تدبير المعلم، تجهيزات الصف..) غدت موضوعات للتأمل الدقيق لاستثمارها على الوجه الأفضل، بغية تحقيق تعلُّم صفي جديد، وهذا ما يعكف عليه المعلمون دائماً في فترة التحضير.