بقلم: الشيخ تامر محمد حمزة
إن الحديث عن المقامات الشامخة للسيدة الطاهرة زينب ابنة علي عليهما السلام، يقود صاحبه إلى أن يجد نفسه في بيت النبوة وموضع الرسالة ومهبط الملائكة والوحي. ومن هنا، ندرك شخصية المتحدَّث عنها من خلال إدراكنا للعوامل المؤثرة (الوراثة، التربية، البيئة) في بناء شخصيتها. مَنْ مثلها في الكون وهي المتنقلة بين أحضان أفضل نبوة وأعز إمامة؟! ومَن يشابهها وهي تطوف حول أقدس ما خلق الله من أمهات؟! ومَن يلحق بها وهي تسعى بين أخوين معصومين؟! فمِن بين ذا وذاك، ومن حول هاتيك، ومِن أحضان ذلك ولدت ونشأت وترعرعت وتعلمت وتأدبت، فكانت بحق خير ولد يحفظ فيه المرء(1). وبالفعل فإنها جماع الكرم(2).
وأما الحديث عن دورها الرعائي والاجتماعي بعد العاشر من المحرم، فهو عصارة ما ورثته ممن سلف، ولذا تمثل القدوة الحسنة والأسوة الصالحة في هذا الميدان. وهي الميزان الذي يميز الرعاية الاجتماعية الحسنة من غيرها. ثم إن الرعاية لها بعد المحرم لا تنفصل عن الدور الرعائي الذي قامت به في بيت الإمامة ولم تبلغ ست سنوات، لا سيما بعد شهادة السيدة الصديقة فاطمة الزهراء عليها السلام. وأما رعايتها بعد العاشر، فيمكن تقسيمها إلى عدة جهات:
1 الرعاية للإمام والمحافظة عليه.
2 الرعاية للنسوة والأيتام.
3 المحافظة عليهم.
بعد أن قرّر الإمام الحسين عليه السلام إخراج أخته زينب عليها السلام معه إلى كربلاء، وبعد اعتراض الكثير من محبيه وأهل بيته كابن عباس وأخيه محمد بن الحنفية، كانت حجته "شاء الله أن يراهن سبايا". لم يكشف لهم عن علة أو حكمة إخراجهن ولأي غرض. نعم من سياق الأحداث تبين أن بعض علل ذلك إنما كان للرعاية والمحافظة على السبايا.
* الأول: رعاية الإمام والمحافظة عليه:
من سَبَر التاريخ وتصفح كتب السير يدرك حقيقة الدور العظيم للسيدة زينب عليها السلام في حماية ورعاية الإمام زين العابدين عليه السلام وسنقتصر على بيان بعض المواطن:
أ- حين سمع استغاثة أبيه:
أية لحظات تلك هي التي يقف فيها أفضل من على البسيطة وهو يستغيث في وسط أصحابه وأهل بيته المضرجين بالدماء، وتحمل الرياح أصوات الأطفال والنسوة إلى مسامعه الكريمة أمام السيوف المجردة والرماح المنصوبة والسهام المسددة قائلاً: "هل من ذاب يذب عن حرم رسول الله؟ هل من موحد يخاف الله فينا؟ هل من مغيث يرجو الله في إغاثتنا؟"(3). ما إن وصلت هذه الإستغاثة مسمع زين العابدين عليه السلام، حتى قام فحمل مرضه متوجهاً إلى حيث النداء، متوكّئاً على عصاه جارّاً سيفه، فرمقه الحسين وتأثر لمنظره وهيئته ونادى أخته أم كلثوم: "خذيه واحبسيه، لئلا تخلو الأرض من نسل آل محمد"، وأرجعته إلى الخيمة، وهو يقول: "يا عمتاه، ذريني أقاتل بين يدي ابن رسول الله صلى الله عليه وآله"(4).
أ- عند هجوم العسكر على المخيم:
بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام، هجم العسكر على خيم عياله وأيتامه من دون رعاية أدنى الحرمات، فأحرقوا الخيم وسلبوا النساء حتى فررن على وجوههن في الأرض. ولما وصلوا إلى خيمة الإمام زين العابدين عليه السلام، دخلوا عليه وجروه من على فراشه وهو مريض. وهنا تقدم شمر بن ذي الجوشن مجرداً سيفه يريد قتله، فنهره حميد بن مسلم قائلاً: يا سبحان الله! أتقتل الصبيان؟ إنما هو صبي مريض، فأجابه شمر: إن ابن زياد أمر بقتل أولاد الحسين. وكاد السيف أن يقع على رقبة الإمام وينهي حياته لولا تدخل العقيلة زينب عليها السلام، حيث تعلقت به لتحميه وتدفع عنه القتل، صارخة بالظالمين القساة: "لا يُقتل حتى أُقتل دونه"(5).
ب- حماية الإمام عليه السلام في قصر ابن زياد:
لما بصر ابنُ زياد الإمامَ زين العابدين عليه السلام، سأله من أنت؟ قال: أنا علي بن الحسين فقال ابن زياد: أولم يقتل الله علي بن الحسين؟ أجابه الإمام: كان لي أخ أكبر مني يسمى علياً قتله الناس، فرد ابن زياد غاضباً: بل الله قتله. أجابه الإمام بشجاعة ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾ (الزمر: 42)، ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ (آل عمران: 145). فرد غاضباً: وبك جرأة على رد جوابي؟ وفيك بقية للرد علي؟ ونادى بأحد جلاديه: خذ هذا الغلام واضرب عنقه. وصارت حياة الإمام في خطر. وهنا، تدخلت السيدة زينب عليها السلام بشجاعة أبيها وجرأة أمها لتنقذ حياة الإمام، فأخذته واعتنقته، ثم التفتت إلى ابن زياد قائلة: حسبك يا بن زياد من دمائنا ما سفكت، وهل أبقيت أحداً غير هذا؟ فإن أردت قتله فاقتلني معه، فقال متعجباً: دعوه لها، يا للرحم ودت أنها تقتل معه(6). هذا كله مضافاً إلى رعايتها الصحية له بما يخفف عنه هول المصاب، لا سيما حين إخراجهم من كربلاء، فأي موكب هو؟ وفي أي حالة هم إذ يتركون الأقمار مضرجة!؟ فمِنْ ذا وذا أخذ الألم والحزن من الإمام مأخذه، فتدخلت السيدة زينب عليها السلام متعالية على كل همومها، متسامية فوق جراحها، مسيطرة على مشاعرها وعواطفها، متجهة نحو ابن أخيها قائلة له: "ما لي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وأبي وإخوتي؟! فوالله، إن هذا لعهد من الله إلى جدك وأبيك، ولقد أخذ الله ميثاق أناس لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض وهم معروفون في أهل السماوات. إنهم يجمعون هذه الأعضاء المقطعة والجسوم المضرجة فيوارونها وينصبون بهذا الطف علماً لقبر أبيك سيد الشهداء لا يدرس أثره ولا يمحى رسمه على مرور الليالي والأيام، وليجتهدنّ أئمة الكفر وأشياع الضلال في طمسه فلا يزداد أثره إلا علواً"(7).
* الثاني والثالث: رعاية العيال والمحافظة عليهم:
تجاوز عدد النسوة في موكب السبايا (النور) الأربعين امرأة عدا الصغيرات والأطفال الذكور. وقد تعرض لذلك بالتفصيل العلامة المازندراني في معالي السبطين(8)، حتى شكلت مرجعاً للنساء والأطفال وتحملت كامل مسؤوليتها الرعائية والإجتماعية كما تولت الدفاع عنهم.
صُوَر من تلك الرعاية:
1- ليلة الحادي عشر:
يعجز القلم عن رسم صورة عن تلك الليلة الموحشة والمرعبة، فالرجال صرعى، والخيام احترقت والأطفال هائمون على وجوههم في ظلمة الصحراء، والنساء نادبة. وهنا، تتجلى العظمة لخير امرأة محتسبة صابرة، إذ حبست أنفاسها وكفكفت دموعها وكظمت غيظها لكيلا تزيدهم إلى حزنهم حزناً، وأخذت تلتقط نجوم الأرض في البيداء وتجمعهم إلى أمهاتهم، ثم ألحفتهم عطفها وحنانها حتى نامت العيون وهدأ الأنين وهي ساهرة ليلتها تحرسهم.
2-ترفض الصدقة على العيال:
بعد دخول موكب النور الكوفة كان قد ظهر عليهم أثر المصاب والتعب والجوع، حتى بدا للكوفيات فصرن يقدمن التمر والخبز إلى الأطفال، تناول بعضهم مما في أيديهن. وقد تصدت السيدة زينب عليها السلام لهذا العمل ومنعت الأطفال عن تناول صدقاتهن قائلة لهن: "إن الصدقة حرام علينا أهل البيت". ولما سمعت الصبية مقالة العقيلة، رمى كل واحد منهم ما في يده أو فمه من الطعام(9).
3- ترفض استقبال الشامتات:
بعد أن أمر ابن زياد بحبسهن في دار إلى جنب المسجد الأعظم، وازدحمن نساء أهل الكوفة للدخول على السيدة زينب عليها السلام في سجنهن، رفضت دخول أحد سوى الإماء وصاحت: "لا تدخل علينا إلا مملوكة أو أم ولد، فإنهن سبين كما سبينا"(10).
4- حماية العيال:
لما دخل الموكب قصر الإمارة في الشام، وقع نظر أحد الشاميين على فاطمة ابنة الحسين عليه السلام ثم توجه إلى يزيد طالباً منه إياها، فلما سمعت ذلك لاذت بعمتها زينب التي وقفت تتصدى للرجل قائلة له: "كذبت ولؤمت. والله، ما ذاك لك ولا له، فغضب يزيد ثم قال: إن ذلك لي ولو شئت أن أفعل لفعلت. قالت زينب: كلا والله، ما جعل الله ذلك، إلا أن تخرج من ملتنا وتدين بغير ديننا"(11).
5- تكرم حرس الموكب:
الحرس الذي واكب السبايا من الشام إلى المدينة بخلاف أولئك الذين كانوا معهم من كربلاء إلى الشام، إذ كان التعامل ليناً، يسيرونهم ليلاً ويريحونهم نهاراً. وإذا نزلوا، تنحوا عنهم بعيداً فكانوا حولهم كهيئة الحرس، وكانوا يسألونهم عن حاجاتهم ويلطفون بهم. فلما وصلوا إلى المدينة، قدمت لهم السيدة زينب عليها السلام مكافأة على حسن تعاملهم وجميل صنعهم وهي عبارة عن بعض الحلي لدى أختها فاطمة عليها السلام، قائلة: "هذا جزاؤكم بصحبتكم إيانا بالحسن من الفعل"(12).
هذا غيض من فيض صبر واحتساب زينب عليها السلام وهي في مقام الرعاية الاجتماعية للسبايا.
(1) من حديث لمولاتنا فاطمة عليها السلام عن أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله (المرء يحفظ في ولده) فاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد (القزويني 249).
(2) من وصايا أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الأشتر حيث قال: ثم الصق بذوي المروءات والأحساب، وأهل البيوتات الصالحة... فإنهم جماع الكرم وشعب من العرف، نهج البلاغة كتاب رقم 35.
(3) (4) بحار الأنوار، ج45، ص46، مقتل الحسين، ص271، المرأة العظيمة، ص200.
(5) حياة الإمام الحسين، ج3، ص302، مقتل الحسين، ص301، المرأة العظيمة، ص202.
(6) الكامل في التاريخ، ج4، ص82، مقتل الحسين، ص325، المرأة العظيمة، ص203.
(7) مقتل الحسين، ص308، المرأة العظيمة، 196.
(8) ج1، ص141.
(9) حياة الإمام الحسين، ج3، ص334، مقتل الحسين، ص310، المرأة العظيمة، ص196.
(10) مقتل الحسين عليه السلام، ص326، المرأة العظيمة، ص196.
(11) تاريخ الألم والمملوك، ج6، ص266.
(12) حياة زينب الكبرى عليها السلام، ص106.