مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

السنن التاريخيّة في القرآن نظرةٌ بعيون الشهيد الصدر

الشيخ محمد حسن زراقط

 



* مصطلح السنن التاريخيَّة:
ربما يمكن القول إنّ مصطلح السنن التاريخيّة من المصطلحات التي أبدعها العقل الفذّ للشهيد الصدر. ولا أعلم قبله من استخدم هذا المصطلح أو بحث عن الموضوع نفسه من خلال القرآن. ولأجل ذلك يحسن بنا الوقوف هنيهة بين يدي المصطلح لتوضيحه وشرحه. فالسُّنَّة في اللغة من مادّة "سنن"، يقال سنَنْتُ الماء أي أسَلْتُه، ويقال تَنَحَّ عن سنن الطريق، وسنَّة الوجه طريقته، وسُنّة الرسول التي كان يتحرّاها، وسُنَّة الله تعالى قد تقال لطريقة حكمته وطريقة طاعته(1). ويمكننا تبسيط التعريف اللغوي هذا بالقول إنَّ السُنَّة هي الطريقة والقانون الذي دعا إليه الله أو أقرَّه في خلقه وجرت عادته على العمل وفْقَه سواء كان ذلك في عالم المادّة أم في عالم الإنسان. وقد وردت كلمة السنة في كثير من آيات القرآن الكريم، منها:
أ ﴿سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً (الإسراء: 77).
ب ﴿مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سنَّة اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً (الأحزاب: 38).
إلى غير ذلك من الآيات التي تدلّ على وجود قوانين تحكم حركة الإنسان وتطوّر حياته ورقيّها نحو الأعلى أو انحدارها نحو الأسفل. وتتّضح أهميّة ما قام به السيد الشهيد في بحثه حول السنن من خلال أمرين سوف نعرض لهما في ما يأتي.

* المواجهة والدفاع عن الإسلام:
يعدّ الظرف التاريخي الذي طرح الشهيد الصدر فيه تصوّره للسنن التاريخيّة من أعقد الظروف التاريخيّة التي واجهت العالم الإسلامي، وهي الفترة التي كانت فيها عقول كثيرٍ من أبناء المسلمين تُحشى قهراً بأفكار لا تنسجم مع التصوّر الإسلاميّ ولا تمتّ له بصلة. فقد كان بطل الميدان في تلك الفترة هو الفكر المادي بنسخه المتعددة، ومنها الماديّة التاريخيّة والماركسيّة التي كانت تروّج لفكرة أنّ ما يتحكّم بحركة المجتمعات وتطوّرها أو انحدارها هو الاقتصاد والمال، وليس لإرادة الإنسان دور في هذه الحركة، وينحصر دوره الأهمّ في انتظار التطوّرات ليتفاعل معها ويتقبّلها. وفي ظل هذه الأجواء شمّر السيد الصدر عن ساعد الجد ليثبت وجود سنن تتحكّم بحركة التاريخ ومسيرة تطوّر البشريّة. ولكن هذه الحركة ليست خارجة عن اختيار الإنسان، وليس هو منفعلاً تجاهها، ولا متلقياً لما تقدمه له فحسب، بل هو فاعل ومؤثر في هذه الحركة. وإرادة الإنسان واختياره هي إحدى السنن والقوانين التي تحكم حركة المجتمعات وتطوّر الحياة الإنسانيّة أو انحدارها.

* الرغبة في التغيير:
والأمر الثاني الذي كان يهدف إليه السيد الشهيد الصدر من طرحه لمفهوم السنن التاريخية هو الرغبة في تغيير الواقع الاجتماعي في العراق خاصّة والعالم الإسلامي عامّة. حيث إنّه كان يحمل بين جنبيه روح الطبيب الذي يشخّص الداء ويعيّن الدواء. وكما أنّ الطبيب يتوقّع لمريضه الصحّة والشفاء إن التزم التعاليم الطبيّة المعطاة له والعكس في حال عدم الالتزام، فكذلك الأمّة ينطبق عليها القانون نفسه. فإنّها على مفترق طريقين، وفي الوسط بين الانحدار والرقي، واختيار كلا الطريقين يتوقّف على إرادتها ومشيئتها ضمن القوانين أو السنن التي سنّها الله لتطوّر المجتمعات أو انحدارها.

*السنن عند الشهيد الصدر:
من هذين المنطلقين اللذين يدفعان السيد الصدر إلى البحث حول السنن، ينطلق ليثبت وجود سنن تتحكّم في حركة الأمم والمجتمعات وتجري هذه السنن على جميع البشر، سواء كانوا مؤمنين أم غير مؤمنين. ومن تلك السنن ما يحكم النصر والهزيمة، فإن الله لا ينصر الأمم ولا يهزمها بشكل عشوائي ودون قوانين أو سنن، بل هناك سنة تحكم النصر والهزيمة على حد سواء هي سنة تداول الأيام، كما يقول الله تعالى في القرآن: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِين (آل عمران: 140). إذاً لا يمنح الله نصره بالمجان ودون حساب، بل يمنحه وفق سنّة إلهيّة، ويتوقّف تحقّقه على توفير الشروط الموضوعيّة للنصر(2). ثم يتابع استعراض عدد من السنن التي تحكم حركة المجتمعات والأمم من خلال القرآن الكريم، فيشير إلى آية أخرى تدلّنا على سنّة مختلفة، هي سنة الأجل والعمر لكلّ أمّة: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (يونس: 49). وتدلّ هذه الآية وغيرها من الآيات المشابهة لها على أنّ الأمم كائنٌ حيّ ينطبق عليه ما ينطبق على سائر الكائنات الحيّة، ويصاب بالموت والحياة والهرم والشباب، وكلّ ذلك ضمن قوانين محدّدة جعلها الله تعالى ونواميس سنَّها(3). ومن السنن التي يكتشفها السيد الصدر من القرآن هي سنّة الاستئصال والفناء التي تصيب الأمم التي تعارض الحق ودعوة الرسل، وذلك من خلال قوله تعالى: ﴿وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً (الإسراء: 76 77).

الخاتمة:
هذه خلاصة لما يقدمه الشهيد الصدر في كتابه الرائع الذي هو سلسلة من المحاضرات التي ألقاها سماحته في إحدى السنوات الأخيرة من عمره الشريف. وتندرج هذه المحاضرات ضمن إطار التفسير الموضوعي الذي يدور محور البحث فيه حول موضوع من الموضوعات لاستخراج موقف القرآن الكريم منه. ويرى الشهيد الصدر أن هذا الأسلوب في تفسير القرآن الكريم يفتح من أبواب فهم القرآن ما لا يفتحه الأسلوب المتعارف من التفسير وهو التفسير الذي يحاول استنطاق دلالات آيات القرآن الكريم، آية آية. ويرى أن هذا الأسلوب الأخير يدور حول سؤال واحد هو السؤال عن معنى الآية. ودور المفسر فيه سلبي وهو الاستماع إلى الأجوبة المتوالية حول هذا السؤال الوحيد. بينما التفسير الموضوعي هو تفسير حيوي يحاول فيه المفسر تقديم رؤية ونظرية متكاملة، أو شبه متكاملة وعرضها على القرآن ليرى موقفه منها ليعدل النظرية أو يقرها أو يلغيها بالكامل. ومن أهم المميزات التي يتمتع بها التفسير الموضوعي بحسب الشهيد الصدر، هو أنه تفسير متجدد تبعاً لتجدد مظاهر الحياة الإنسانية الحافلة في كل يوم بشي‏ء جديد، يمكن عرضه على القرآن لأخذ رأيه فيه. وتبعاً لقاعدة: "وما راءٍ كمن سمعا" أكتفي بما تقدم وأدعو القارئ الكريم إلى معاينة كتاب الشهيد الصدر والتزود من معينه، فهو من الكتب التي تعد على الرغم من صغر حجمها باباً يطل على المعرفة التي تخدم الحياة، كما تخدم تطوير الفكر أيضاً.


(1) المفردات في غريب القرآن، مادة سنن.
(2) المدرسة القرآنية، ص‏50.
(3) المدرسة القرآنية، ص‏58.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع