الشيخ عمار حمادة
يقول عزَّ من قائل في كتابه الكريم الحاوي لِلُباب المعرفة ومنتهى طرائف الحكمة:
﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا﴾ (الإسراء: 89) صدق الله العلي العظيم. ضربُ الأمثال أسلوب تعليمي مشهور، وقد اعتُبر من أشد الأساليب فعَاليةً في تقريب الأفكار إلى الأذهان، ومن أكثرها بلاغةً في إيصال المعنى إلى المخاطب.
وبالتالي، كان الأمتن إقناعاً والأسهل اتباعاً في عملية الإرشاد والتوجيه.هذا الأسلوب، لم تقتصر الاستفادة منه على النصوص الصادرة عن الإنسان، بل كان من ألطف الصنائع الموجودة بكثرة في الكتاب الإلهي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. القرآن الكريم الذي لم يدعْ طريقاً من طرق هداية الإنسان تعليماً وتربيةً إلا واتبعه، لم يغفل عن هذا الطريق الذي يؤدِّي إلى أبلغ المواعظ وأيسر الإرشادات: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ (الزمر: 27). وقد اتبعه في مجالين أساسيين:
الأوَّل: في استخلاص العبر والدروس من حياة الأمم الغابرة والحضارات السالفة، حيث قصَّ من سِيَرها أروع القصص ودعا الإنسان للاعتبار.
الثاني: في تثبيت المفاهيم العالية والأفكار السامية عندما قدَّمها في قالب الأمثلة، خصوصاً منها ما كان شرحه عاصياً على الفهم لعوام الناس. فبيَّنها أروع بيان في قصصٍ وأمثال بعضها مفترض وبعضها حصل في حقبة من حقب التاريخ. ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ (العنكبوت: 43). وبكلام آخر، لم تتم الاستفادة في القرآن الكريم من ضرب الأمثلة في الهداية العملية فحسب، إنما تعدت إلى إثارة القضايا العلمية وشرح المفاهيم النظرية وتسهيلها وتقديمها للناس من أجل التعلُّم. وهذا ما أضفى على عملية التعلُّم في القرآن رونقاً خاصاً خرج بها من إطار العلماء والباحثين إلى إشاعة العلم بين الناس، كمقدمة لهداية المجتمع البشري والوصول به إلى قمم الكمال المنشود. في مسعى متواضعٍ منَّا لسبر بعض هذه المفاهيم العلمية القرآنية وتسهيلاً لتعقلها، سنقوم سويةً باستعراض البعض منها وسنتتبع طريقة القرآن في ضرب المثل عليها، وسنستخلص ما أراد منا القرآن فهمه وتعلُّمه. من الجدير ذكره بدايةً، أننا خلال عملية الاستعراض هذه سنتلمس بشكل واضح كيف أضفى ضرب المثل جماليةً على المفهوم، وكيف بسَّط عملية تلقي أعقد المفاهيم والأفكار، وكيف رفع مؤثرية الخطاب إلى حدِّها الأعلى. فليس الأمر سيّان بين العرض المجرد للفكرة بقالبها اللفظي الجاف، وبين عرضها على شكل مَثَل يتلقف معناه العقل والوجدان وتستأنس به الروح وتُسَرُّ به الأسماع المتآلفة مع وقع الآيات وجرسها الموسيقي الشجي. فما هو المثل؟ وكيف يُضرب؟ المثل بفتح الميم والثاء لغةً هو ما يشخص الشيء عند السامع، ويراد به اصطلاحاً الجملة أو القصة التي تفيد استحضار معنىً مطلوب في ذهن السامع من خلال المماثلة بين شيئين. وتتقدَّم عملية ضرب المثل بعنصرين أساسيين:
الأوَّل: الاستعارة التمثيلية، وهي القيام بعملية المماثلة بين شيئين، والإشارة إلى وجه أو أوجه المماثلة بينهما بعد عرض التفاصيل المتعلقة بهما لبيان المعنى المراد.
الثاني: مادة التمثيل، وهي المعنى أو القصة أو الشيء الذي يُمثَّل به لشيء آخر ويراد من خلاله التنبيه على المفهوم المعيَّن.
في هذه المقالة الابتدائية نشرع بمثالين ضربهما القرآن الكريم: الأوَّل: مثال على كيفية تعلُّم الإنسان من الحس.
الثاني: مثال على عدم كون الآلهة المدَّعاة آلهةً من دون الله.
*المثال الأوَّل:
في الآية 31 من سورة المائدة يقول القرآن الكريم:
﴿فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ﴾. ورد في تفسيرها أنَّها "تمثل حال الإنسان في الانتفاع من الحس وأنَّه يُحصل خواص الأشياء من ناحية الحس، ثم يتوسَّل بالتفكُّر فيها إلى أغراضه ومقاصده في الحياة على نحو ما يقضي به البحث العلمي"(1). ففي هذه الآية، يضرب القرآن الكريم مثل قصة قابيل عند قتله لأخيه هابيل وجلوسه محتاراً ماذا يفعل بجثته، فجاءه الغراب ليعلمه كيف يواريها في التراب. ومن أهداف هذا التمثيل، إضافةً إلى بيان ضعف الإنسان، الإلفات إلى ضرورة النظر إلى الموجودات في الطبيعة والتعلُّم منها، والتنبيه على أنَّ إحدى طرق تعلُّم الإنسان لقضاء حاجاته المختلفة والقيام بشؤون معيشته، تكون بالنظر إلى عالم الطبيعة من خلال الحواس الظاهرة التي زود الله بها الإنسان. ومن هنا، تصلح الآية من خلال المثل المضروب لأن تكون دليلاً ولو بالتعميم على كون معرفة الإنسان تنطلق بدايةً من الحس، ثم تتطوَّر بعملية التفكُّر والتحليل والتركيب. وهكذا إلى يومنا الحالي استمر الإنسان في سيره التعلمي من الطبيعة جماداً ونباتاً وحيواناً حتى وصل إلى تلبية أكثر حاجاته تعقيداً وتطوراً، حيث نجد أهم الاختراعات مستوحاة من الحيوان، مثلاً، كما في استعارة شكل الحوت للغواصة واليعسوب للطوافة وطريقة الهبوط والإقلاع عند البط لهبوط الطائرات وإقلاعها، والرادار من الخفاش ومناظر الرؤية الحرارية من عين الأفعى، والتمويه من الفراشات والأسماك وحتى النباتات.
*المثال الثاني:
في الآية 73 من سورة الحج ورد: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾. والمثال المضروب في هذه الآية عبارة عن قصة فيها نوع تحدٍّ، مفادها أنه لو فرض أن الذين يدّعون أنهم آلهة من دون الله أرادوا أن يخلقوا ذباباً وهو أضعف المخلوقات لم يقدروا على ذلك، بل لا يستطيعون حتى تدبير أمر الذباب فضلاً عن خلقه، ودليل ذلك أنَّهم لو سلبهم الذباب شيئاً مما عليهم لا يستطيعون أن ينتزعوه منه. وهذا الوصف يمثل حال الآلهة المدعاة في قدرتها وتدبيرها، فالطالب ضعيف وهو في المقام الآلهة المدعاة والمطلوب ضعيف وهو في المقام الذباب، وهو بيان لغاية الضعف مما يدل على عدم كونها آلهة، فكيف يستحق العبادة مَنْ هذا شأنه! ومن التطبيقات العملية لهذا التحدي المفترض، قصة النمرود الذي ادَّعى الألوهية وعبَّد قومه وحارب نبي الله إبراهيم ودخل معه في محاججة، فما كان من ذبابة إلا أن دخلت إلى دماغه من منخره فظل يتعذَّب لأيام ثم مات دون أن يفعل شيئاً. فالذباب الضعيف سلب مدَّعي الألوهية الراحة والحياة دون أن يستطيع هو استردادها. أفلا يتدبَّر الطغاة أمثال القرآن ﴿أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾!؟
(1) الميزان.