الشيخ يوسف سرور
يأنس رهبان الليل، المُختَلُون بالمحبوب.. تنتشي أفئدتهم بلحظات الوصل المحتسبة في آنات الزمان. تتصاعد في قلوبهم مشاعر الارتياح، وتنحاز نفوسهم ناحية الرضا.. لكن، أنّى لهذا الاحتدام المحموم بين انشداد القلوب إلى المحبوب، والعقول إلى المقصود، وبين انشداد النفوس نحو التثاقل، لتسرق لحظات الغفوة نفسها عبر اشتداد التثاؤب، وينسل النعاس إلى الجوارح، ليستقر في أعماق النفوس، وتستسلم العيون لسلطانه وتطبق الأجفان عليها معلنةً بدء أوانه...
تغرق النفوس المحبة في سبات، إلى حين يدوي صدى انبلاج نور الفجر، فيسطع في فضاءات القلوب، ويمدّ النفوس بشيء من الدفء، يدفعها إلى ذلك الفعل المكرور، المشابه للأمس وما قبله، ويأتي ما بعده مشابهاً للغد، وما بعده، يماثله ما بعده... هذه حال المحبين، الذين ترى أبدانهم تسير في شوارعنا والأزقة، تتنقل بين أحيائنا والمناطق.. لكن أرواحهم معلقة بالمحل الأعلى،.. الذين لولا الأجل الذي كتب لهم، لم تستقر أرواحهم في أبدانهم طرفة عين.. شوقاً إلى ذلك اللقاء، وتحيى في نفوسهم ﴿وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾.
هذه حال المسكونين بعشق الله، تخطب الدنيا ودَّهم، فيشيحون عنها، وتنصب لهم الشراك فيفلتون منها. هذه حال أطواد الأرض، أصحاب الهمم الأهّابة والنفوس الوثابة، والهامات الممشوقة المنتصبة أبداً، والتي لا تنحني إلا لمن أعطاها وجودها والبقاء. ليل... فصباح.. فضحى، فزوال... فأصيل فمساء... فَدجى. هذه هي الحال.. حال الصفوة..! أما الحاج رضوان... أعني ذلك الذي ما رأى العالم هامته.. وقبل الثاني عشر من شباط لم يرَ العالم صورته.. أما الحاج رضوان.. فإن ليله ممتدٌّ منذ خمسة وعشرين عاماً، في خلوة المعشوق لا يكلُّ ولا يني... وصله في اندفاعة محمومة لا توقفها اللحظات ولا تثنيها العثرات. منذ ربع قرن، استيقظ الحاج رضوان ولم تغفُ عيناه، لم يتسلل النعاس إلى مقلتيه.. منذ ربع قرن، لم يتعاقب على حياة الحاج رضوان الليل والنهار. منذ ذلك الحين، أكمل ما تبقى من حياة خلف ظلال عتمة الليل، في خشوع العبادة، يلملم دموع العاشقين في لحظات الوصال، ليوزعها في قلوب المجاهدين العارفين... يجوب نواحي الأرض، ملتقطاً أفراح الدنيا ليزرعها في نفوس المعذبين المقهورين..
الحاج رضوان.. هو ذلك الراصد المنصوب في فضاء الأمة.. يعتقل لحظات الوهن المتسللة إلى زمانها، يمنع عنها مشاعر الإحباط... خرج طيف الحاج رضوان.. ليحلق في آفاقنا، يتنقل بين أرجاء بلادنا إعصاراً، يهدر انسياب دمه مدوّياً.. مالئاً قلوب الأعداء رعباً.. باعثاً فيهم روح اليأس. الحاج رضوان.. الذي عاش أسداً هصوراً، راهباً خاشعاً، في جوف ليل مديد.. خرج من ليله، ليستوطن كل قلوب الأحرار في العالم، ليقيم في دشم المقاتلين الذين تحولوا إلى استشهاديين، ليبعث في الأمة أملاً جديداً، ويصنع لها نصراً جديداً، ليكتب لها تاريخاً مجيداً.. وعزاً تليداً.
ضاق جسد الحاج رضوان بروحه الملكوتية.. تجاوزت آماله كل الحدود والأرجاء.. وصل بدمه شرايين الأمة، ليبعث فيها عزيمة علوية وبأساً حيدرياً، وليثبت أن في مسيرتنا من رَعَفَ بهم الزمان، وقوي بهم الإيمان.. وليبثَّ روحه في روح الأمة، فيستحيل الملايين من أفرادها.. حاج رضوان.. الحاج رضوان أثبت للبائسين أن ليلهم الذي يمتد إلى ساحة المحشر قد بدأت لحظته.. وأثبت للمؤمنين أهل البأس والرجاء أن آفاق الدنيا مهما اتسعت، فإنها تضيق على أهل الآخرة.