آية اللَّه الشهيد مرتضى مطهري
ترجمة: د. علي الحاج حسن
ما هي العوامل التي تؤدي إلى زوال الأمم؟ يُفهم من القرآن الكريم وجود أربعة عوامل تؤدي إلى فناء الأمم:
1 - الظلم(*)
2 - الفساد الأخلاقي
الصلاح والفساد الأخلاقي عند الشخص هو الأصل الثاني الذي يمكن استنباطه من القرآن الكريم. وإذا كان المجتمع يتألف من مجموعة أفراد فإن شخصياتهم تتحقق بواسطة الأخلاق والخُلقيات والملكات والفضائل. ويبقى المجتمع ويستمر إذا لم يبتلى أفراده بالفساد الأخلاقي. والفاسد هو الذي اعتاد على الخلاف والانحراف والقمار والشراب والرشوة وغصب حقوق الآخرين. وتطرح الآية الشريفة التالية حال المترفين: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ (الإسراء: 16). فالمترفون يظهرون الفسق والفجور والفساد الأخلاقي في المجتمع. والنتيجة كما توضح الآية الشريفة هي التدمير والهلاك والزوال. إذاً المجتمع مركَّب من مجموعة أفراد. ولا يصبح المركَّب موجوداً في الطبيعة إلا إذا كانت جميع أجزائه سالمة صحيحة وغير فاسدة، بالإضافة إلى أنه يجب أن يكون وجود الأجزاء في المركَّب بنسب معينة، ليتشكل ما أطلق عليه القدماء المزاج الذي يؤدي إلى وجود حالة جذب وتأثير وتأثر بين الأجزاء. أما إذا كانت أجزاء المركَّب فاسدة (البناء الذي يشيد بواسطة مواد فاسدة) فإن المركَّب قد يظهر إلى الوجود لكنه لا يتصف بالاستحكام والثبات، على أساس أن أجزاءه فاسدة. وهكذا إذا كانت الأجزاء والمواد الأولية صحيحة سالمة إلا أن البنَّاء والذي يعمل على اتصال الأجزاء ببعضها كان فاسداً فهذا سيؤدي إلى فساد البناء أيضاً.
بناءً على ما تقدم فالفساد الأخلاقي هو الأصل الثاني الذي يعتبره القرآن الكريم من المشكلات التي تهدِّد بقاء الأمة. يعتبر القرآن الكريم أنه من المحال أن يتجه المجتمع إلى السعادة وأفراده فاسدون. هل تدركون ما هي الطرق التي تستعملها بعض الأمم في سبيل تضعيف واستعمار أمم أخرى؟ عن طريق الفساد الأخلاقي، بمعنى أنهم يبدأون ومن طرق متعددة بإفساد أخلاق تلك الأمة، يغرقون تلك الأمة بالمجلات الفاسدة والأفلام الفاسدة ويشجعون على الخمر، ويبنون نوادي القمار ويروجون كل أنواع الانحرافات من الفحشاء والزنا وغيرها من الأمور التي تمحو الشرف من روح الأمة، على اعتبار أن الإنسان كلما غرق أكثر في المفاسد زالت عنده روح الإحساس بالشرف والعزة والإنسانية. إذا شاعت هذه الأمور يصبح وجود الشخص أمراً عبثياً باطلاً، لا يبقى من الحياة إلا البطن والحياة اليومية؛ وهنا ينمو الفساد ليطال الأفكار والأخلاق. وقد حكى لنا التاريخ نماذج متعددة من هذه الحالات ومنها الأندلس:
تعتبر الأندلس الإسلامية إحدى أهم النماذج فيما تحدثنا عنه. طالعوا تاريخ الأندلس، وتصفحوا بعض الكتب في هذا المجال، على الأقل شاهدوا كتاب "تاريخ أندلس" للصديق العزيز المرحوم آيتي. الأندلس أعظم مكان في الحضارة الإسلامية. العالم الآخر كان يشعر بالضعف أمام هذه الحضارة إلا أن أنظارهم كانت تتجه إليها. لم يتمكنوا من عمل أي شيء على أساس أن الأشخاص الموجودين كانوا من الصالحين. فكانت الخطة من بوابة الفساد الأخلاقي: سنوفق إذا ما عملنا على إفساد أخلاق شبابهم. فدخلوا بواسطة المرأة والخمر. فبدأوا بتجهيز وسائل صناعة الخمر وأخذوا يوزعونه مجاناً للمسلمين(1). في الجهة المقابلة عملوا على النساء غير المسلمات اللواتي كن من دون حجاب، فكانت مسؤولياتهم تجميلهن وتقصير الملابس يوماً بعد آخر مما جعلهن محط أنظار المسلمين. هذه الخطة التي وضعت لأجل إفساد الأفراد تركت آثارها الكبيرة. وبالتدريج اعتاد شباب المسلمين على الشراب والقمار ومصاحبة النساء. ووصل الأمر إلى أن أصبح لدى كل شاب مسلم صاحبة من غير المسلمات.
وقد طالعت قصة في أحد الكتب حيث كان أحد الحكام المسلمين يشاهد الشوارع والأسواق من على شرفة قصره وفي الأثناء تعبر إحدى الفتيات بمظهر ملفت. هنا ينظر الحاكم إليها ويسرع في طلبها بنفسه ويأخذ بها إلى القصر من دون أن يترك الأمر للغلمان والمستخدمين للإتيان بها. عندما نقلت هذه القصة إلى أحد المراكز التي تحيك المؤامرات فرحوا باعتبار أنهم وصلوا إلى مرحلة الفتح، فالمجتمع الذي يفقد أفراده الحس والإرادة ستزول منه روح العزة والشرف. في الوقت الذي كانوا يشيعون الفساد الأخلاقي في المجتمع الإسلامي بدأ الهجوم الحقيقي. حيث بدأت المجازر الجماعية بحق المسلمين، حيث يعتبر الفرنسي غوستاف لوبون أن المجازر التي ارتكبت لم يشهدها العالم ولم يرحم فيها لا المرأة ولا الرجل.
لقد أبادوا المسلمين بقساوة منقطعة النظير (ويطلق هؤلاء على أبنائهم أسماء جاك وجان ولكن لو عدنا إلى أجدادهم لوجدنا أن أسماءهم كانت أحمد ومحموداً وأبا القاسم وجميعهم من المسلمين). لقد وصل الاختناق في ذاك المجتمع إلى مرحلة أنهم كلما وجدوا مسلماً قتلت عائلته كانوا يكتبون: طفل وُجد في عائلة مسلمة كانت تكتم إسلامها. أما بعد عشرين سنة وعندما يكبر الطفل يأخذه أحد أقربائه إلى بعض المخابئ وبعيداً عن الانظار ويطلعه على السر المكتوم بعد أن يتعهد بعدم إفشائه. بعد هذه المدة يُطلعون الشاب على حقيقة دينه، لعله يتمكن من أن يفعل شيئاً لنفسه أو قد يغادر إلى بعض الدول الإسلامية بعد مشقة وعناء. إذاً الفساد الأخلاقي كان سبب زوال واضمحلال الأمة.
3 - التفرقة والتشتت
التفرقة والتشتت هما العامل الثالث حيث يُقسم المجتمع إلى مجموعات وفرق وقبائل، ويكون لكل مجموعة عقيدة ومسلك. ويولي القرآن الكريم أهمية خاصة للتفرقة والتشتت وما يقابلهما أي الاتحاد والوحدة. أما الإسلام فهو دين الوحدة والاتفاق. انظروا إلى أين وصل عمل الإعلام الاستعماري، عندما ينهض شخص في المسلمين لينادي بالوحدة الإسلامية يخرج البعض لاتهامه بالكفر والخروج من المذهب، لأنه يدعو إلى الوحدة الإسلامية. هل أصبحت الوحدة الإسلامية تخالف مذهب التشيع! لقد قدّم الإمام علي عليه السلام نفسه في سبيل الوحدة الإسلامية، وهل يمكننا أن نجد شخصاً عمل لأجل الوحدة كما عمل الإمام علي عليه السلام؟ كان الآخرون يعملون على التفرقة وكان الإمام يعمل على الوصل والوحدة. جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ ﴾ (آل عمران: 103) وجاء في آية أخرى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَات﴾ (آل عمران: 105)، وفي آية أخرى: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ (الأنفال: 46). الأمة التي تفقد الوحدة فيما بينها، وتبتلى بالتفرقة والتشتت هي أمة ضعيفة. عند ذلك تختفي تلك الرائحة العطرة التي ترتفع من المجتمع الإسلامي الحقيقي. لقد أوصى الإمام علي عليه السلام في أواخر حياته بمجموعة وصايا بلغت العشرين، إحدى هذه الوصايا كانت حول الوحدة والاتفاق. أما ماذا كان يخطط الأعداء منذ حوالي العشرة أو الاثني عشر قرناً، وكم تمكن المسلمون من الوقوف على مسؤولياتهم الحقيقية في هذا الإطار، وكم كان أثر العوامل الخارجية بالأخص دور اليهود؟ فإن لكل هذه الأمور قصة مفصَّلة.
استمرت الحرب بين المسلمين والصليبيين أيام الحرب الصليبية مدة مائتي سنة حيث هُزم الصليبيون. ولكن منذ تلك اللحظة بدأوا يخططون ويضعون المؤامرات من أجل إيجاد الفرقة في الداخل بين المسلمين. وطبعاً، ووفق بعض المحققين، فإن الكثير من الحوادث التي ظهرت في المجتمع الإسلامي بعد الحرب الصليبية كان الصليبيون وراءها، وهم الذين كانوا يخططون لها من أجل إيجاد الفرقة والاختلاف بين المسلمين.
(*) تم الحديث عنه في الحلقة الأولى التي نُشرت في العدد الماضي.
(1) مما لا شك فيه وجود مخططات داخلية صليبية إلا أن هذه المخططات كانت تحصل في الخفاء.