نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

الشهادة: موقف من الحياة للحياة

د. مصطفى الحاج علي‏

 

 


الشهادة في الفكر الشيعي ليست موقفاً من الحياة فحسب، وإنما هي موقف للحياة أيضاً. لذا فقد ارتبطت عبر التاريخ بفكرة العدالة والحق، وكانت بالتالي، شهادة على الظلم من أجل العدالة، وشهادة على الباطل من أجل الحق. ولا يمكن، عبر التاريخ الشيعي، الفصل بين الشهادة والمثل العليا البشرية المتجسدة بالأئمة الإثني عشر، بدءاً بالإمام علي بن أبي طالب عليه السلام وانتهاءً بالإمام المهدي عجل الله فرجه، حيث تشكل الشهادة والابتلاء القاسم المشترك الأكبر بين حياة الجميع. جميع أئمة الشيعة باستثناء الإمام المهدي (الإمام الثاني عشر عند الشيعة الإمامية) لم ينتهوا على فراش، إذ بغالبهم قد قتلوا قتلاً وعلى أيدي الحكام، وهم بذلك، رسموا النموذج الأسمى لدى شيعتهم ليس للحياة فقط، وإنما للموت أيضاً. فطريقة الموت تحمل في طياتها نمط الحياة المطلوب والمرغوب فيه. وإذا كانت الشهادة طفرة تحدث تحولاً ربانياً في الجانب الحقير والمنحط من الإنسان إثر عملية توهج واحتراق في نار العشق والإيمان، ليصبح ذلك الإنسان طاقة نورانية إلهية محضة، فإنها بذلك تجسد فعل ارتقاء إلى قيم العدالة والحق.

* رسالة الشهادة
وبهذا المعنى، فالشهادة رسالة، وهي كأية رسالة لها شروط أساسية تقوم بها، أبرزها:

أ - وجود الذات الواعية.
ب- وجود الجهة المخاطبة، أو الغاية واجبة التحقق.
ج- أخيراً تحرك صاحب الرسالة من أجل تحقيقها.

وهكذا، فإن جوهر "الرسالة" هو ميل غائي قاهر موحى به نحو فعل (أو قول) شي‏ء ما. إن الرسالة لا تقال عن حق إلا لبعض الأفراد الذين يحددون لأنفسهم بأنفسهم أهدافاً عالية تخرج عن المألوف، ويكرّسون لتحقيقها كل حياتهم أو جلّها، ويكونون على استعداد واعٍ للتضحية بكل شي‏ء، حتى بالحياة نفسها في سبيل تلك الأهداف. وهنا تلتقي الشهادة بالرسالة، ذلك أن الشهيد صاحب رسالة بكل معنى الكلمة، حيث يصل بالتضحية إلى حدّها الأقصى. ومن الواضح أن الشهادة كأعلى ما يكون عليه الموقف الرسالي، هي موقف غيري يتجلى فيه الخروج عن الذات بأسمى معانيه، إلى حد تحطيم الذات في سبيل إنجاز الهدف، الذي غالباً ما يكون هدفاً نوعياً. وبكلام آخر، فإن تحطيم صيغة الذات الفردية، إنما يشكل نوعاً من الخروج عن الذات في سبيل الحياة النوعية للجماعة، أي في سبيل الـ"نحن" الكلي والعام. ولذا كانت الشهادة بما هي رسالة، ليست قضاء على الحياة، وإنما هي توسعة لها وتخصيب، إنها نوع من تكبير للـ"أنا" لتلامس الـ"نحن"، ونوع من رؤية الـ"أنا" في مرآة الـ"نحن" لا الـ"أنا"، أو قل هي عبور الاختلاف بين (الأنا) و(النحن) والقضاء عليه بفعل التضحية نفسه.

 الموت التضحية بالذات، هي لحظة الانعطاف الكلي في الاختلاف بين (الأنا) و(النحن)، بما يعيد إنتاجهما سوياً في مركب توحيدي أعلى، من حيث هي أي التضحيّة تجاوز ومفارقة نحو الأعلى الإلهي. وبهذا الاعتبار، أو بهذا التحول، تكبر الـ"أنا" لتصبح في حدود الـ"نحن" ويشتد وجود الـ"نحن" باندكاك "أنا" كل الشهداء فيه تماماً، وعلى حد تعبير "طاغور" "يذوب البخور، يذوب ليتحلل في العطر، والعطر يذوب لكي يلتحم بالبخور، والنغم يسعى لمعانقة الإيقاع، بينما يعود الإيقاع متدفقاً في النغم". ولما كانت الشهادة رسالة من أجل الآخرين وفي سبيلهم، فإنها لا يمكن أن تكتفي بنفسها، بل لا بد من اكتمال معناها من خروجها من مستوى التصور إلى مجال التنفيذ، والسعي للتحقيق، أي لا بد من اكتسابها لحماً ودماً وعظماً وعصباً، وجعلها واقعاً حياً معاشاً، وهذا ما يجعل من الرسالة دعوة. ولا ريب أن الشهادة هي أبلغ وأفصح بيان لنشر الرسالة الدعوة، حيث تؤثر في هذا الاتجاه على مسألتين أساسيتين، هما:
أ- حجم التحديات والموانع التي تواجه الرسالة.
ب- حجم وكثافة التغيير المطلوب، سواء في دائرة حركة الرسالة الدعوة أو في وجهتها. وكلا الأمرين يستلزم من صاحب الرسالة إنهاء حياته الدنيا في سبيل تجسيدها واقعاً حياً ومعاشاً.

* معاجز الشهادة
وبهذا الاعتبار، ليست الشهادة مجرد موقف، وإنما هي حجة ودليل في الواقع والتاريخ معاً، حجة ودليل يستعان بهما لتحديد ماهية الأمور، وأداة من أدوات الفصل بين الحقيقة والخيال على المستوى المعرفي، وبين الحق والباطل على مستوى القيمة. وأهمية الشهادة هنا، أنها لا تطل على موضوعها من بعيد، أو من وراء حجب، فهي ليست نقلاً عن، وإنما هي حضور يتجسد في مجاورة الشاهد الشهيد لموضوعه لعصره. هو جزء منه يتفاعل مع قضاياه وهمومه وتطلعاته وآماله. ولذا كانت الشهادة وكان الشهداء عبر التاريخ أصدق كاشف، لا عن واقع العصر فحسب، وإنما عن مسار التاريخ ووجهته أيضاً، إنهم يشكلون المسار النقيض لمساري التعسف والجور، اللذين ينسج جدلهما حركة التاريخ. إن الشهادة تعطي مثل هذا المجتمع دماً وولادة حركة متجددة، وأكبر معاجز الشهادة هي إيصال الحياة والدماء إلى الأجزاء الميتة من ذلك المجتمع، من أجل ولادة جيل جديد وإيمان جديد.

* الماهية الحسينية لحزب الله:
من هنا نخلص إلى القول إن الشهادة تعني الحضور، والإبصار، والإخبار، والشهود، والصدق، والأمانة، والوعي للشخص الذي تتطلع إليه الآمال.. وهي تعني أيضاً القدوة والنموذج. إنها اختيار واعٍ يقدم عليه المجاهد بكل طواعية ووعي وإدراك، ويختاره بدافع ذاتي بعيد. هذا النمط من الشهادة هو الذي ما فتئ الفكر الشيعي وفقهه وحضوره التاريخي يؤكده. فالفكر الشيعي حوَّل الشهادة إلى منهج حياة، والشهداء بنظره يقيمون ضرباً من الاتصال بخط الأنبياء عبر التاريخ، هذا الخط المنسوج من التوحد والحق والعدل والعزة والكرامة والحرية، في مواجهة خطوط الشرك والظلم والعبودية.. والذي منح الشهادة هويتها الشيعية الخاصة هي واقعة كربلاء، والدور التاريخي الذي لعبه بطلها الإمام الحسين عليه السلام. فالإمام الحسين عليه السلام بصفته أحد أئمة الشيعة، استطاع بشهادته المتميزة، أن يكسب الشهادة عمقاً إضافياً. فمعه لم تعد الشهادة تصوراً مجرداً، أو إطاراً مثالياً لفكرة ودور، وإنما تحولت إلى واقع حي، واقع مقدّس ومتعال. ولأن الإمام في التصور الشيعي يشكل المثال البشري الأعلى الذي يجب التماهي معه، فإن الإمام الحسين تحول إلى نموذج للتماهي في طريقة الحياة والموت معاً. كما أن التركيز التاريخي المتواصل عبر سلسلة الأئمة، على عمق الحضور العاشورائي في الحياة زماناً ومكاناً، حيث إنه حسب تعبير الإمام الصادق (الإمام السادس من أئمة أهل البيت الإثني عشر) أعطى التماهي اليومي مع الحسين، حياة وموتاً، إمكاناً ممتداً على طول الزمان واتساع المكان. وبما أن الحسين اختصر أهداف عاشوراء الخالدة بعنوانين مركزيين هما العمل بسيرة جده وأبيه و"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، وكان سلاحه المركزي لتحقيق تلك الأهداف هو الموت: "خُطَّ الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة"، فإنه، وإن كان المصداق العاشورائي يتنوع بحسب طبيعة الزمان والمكان، إلا أن الموت كسبيل إلى إنجاز الأهداف سيبقى الفعل النوعي لهذا الحضور.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع