نسرين إدريس قازان
ركضَ إبراهيم أمام ناظري والديه وعدد من أهل القرية وهو يحمل قاذف "آر.بي.جي"، باتجاه دورية مؤللة قادمة من موقع برعشيت، وأطلق النار عليها ليمنعها من دخول القرية، فأوقع بين أفرادها العديد من الإصابات، وسقط شهيداً بقذيفة دبابة ميركافا تحرسُ الموقع. ومنذ ذلك اليوم، لم تتجرأ دورية على التفكير في اقتحام القرية، بعد ان كانت الدوريات تنتهك حرمتها ساعة تشاء.. وظنَّ الجنود الإسرائيليون وعملاء سعد حداد المسيطرون على موقع برعشيت آنذاك، أنهم ارتاحوا من أكثر الرجال عناداً في مقاتلتهم. فإبراهيم مذ كان فتىً يافعاً في أوجِ نضارته، بدأ معهم تصفية حسابٍ طالما كانت نتائجه مرة. وهو ابن منزلٍ لم يمتنع يوماً عن حمل السلاح مع المقاومة الإسلامية، وعلى الرغم من ذلك، فإن قاطنيه لم يعرفوا، ولم يخالجهم خاطر في أن يكون، إبراهيم أسداً من أسود المقاومة، وأشدهم ضراوة في مقارعة العدو.
فالذي يراه يعين والدته على تنظيف المنزل وترتيبه، وكيف يستيقظ قبل الفجر ليساعدها في إعداد الخبز، لا يصدق أن هاتين اليدين فجرتا خزانات موقع برعشيت وزرعتا راية بداخله في العام 1984، أي في زمن القبضة الحديدية للعدو الصهيوني على أرض الجنوب، وفيما العمل المقاوم كان لا يزال في بداياته.
هو صاحب الابتسامة المؤنسة. والذي يرى هدأة عينيه يستغرب أنهما لا تغفوان عن حراسة حدود القرية حينما يجنّ الليل، ففي أية لحظة قد ينزل العدو ويقتحمها ويعتقل من يريد من شبابها.. إبراهيم، الشاب الذي درج على تعاليم سماحة السيد عبد المحسن فضل الله في خربة سلم، وتشرب معنى المقاومة والجهاد من أصداء مواقف الشيخ راغب حرب، لم ترهبه مجازر العدو وعملائه، بل زادته ايماناً وقناعةً بالطريق الذي اختار، والتي بادر إليها من تلقاء نفسه، مع عدد من رفاقه، فبدأوا يخططون وينفذون العمليات العسكرية والأمنية، وأهمها تلك التي خطط لها ونفذها ضد المكتب الأمني للعميل المقبور حسين عبد النبي. حيث اختفى ابراهيم لأكثر من اثنين وعشرين يوماً، ولم يعرف أهله الذين بحثوا عنه في كل مكان، أنه مختبئ في المنزل وأخته تساعده على التواري حتى عن أنظار اخوته، إلى ان ازف وقت عملية الاقتحام وقتل العميل أحمد سلامة، وأسر ما يزيد عن ثلاثة عشر عميلاً..
كانت الشجاعة بطاقة عبور ابراهيم إلى جنات ونهر.. وحينما سقطَ شهيداً في ساحة قريته التي حمى جدران بيوتها بكفيه، فإن دمه سقى النفوس، وأنبت المجاهدين.. وذلك المشهد بما يحويه من دلالات ايمانية وقتالية لا نستطيع ادراكها، لم يغب للحظة عن بال محمد وخليل، فمحمد الذي التحق باكراً بصفوف كشافة الإمام المهدي عجل الله فرجه وكان قائداً نشيطاً ومبادراً لا تزال بصماته واضحة في تطوير العمل الذي قام به. لم يكن يحتاج إلى قرارٍ للالتحاق بصفوف المقاومة الاسلامية، خصوصاً وأن أخاه الحاج خليلاً، المثل الأعلى بعد الشهيد إبراهيم، كان يدفع في كل لحظة ثمن التحاقه بالمقاومة، من مداهمةٍ دائمةٍ للمنزل، إلى الاعتقال، إلى الإبعاد، وظلت العزيمة صلبة والبوصلة باتجاه العدو.. فبرعشيتُ ظلت قلعة الصمود بفضل صمود أبنائها، وتوكلهم المطلق على الله عز وجل.. ولطالما تحدوا الموقع الرابض على كتف القرية باستهزائهم، وبتحديهم له، وفي إحدى المرات مشى محمد في مكان مكشوف للموقع فأطلقت رشاشات العملاء النيران عليه، فلم يكن منه إلا أن أطلق عليهم ضحكاته ساخراً منهم.. محمد الذي وازى بين تحصيله العلمي، والعمل الكشفي والحراسات الليلة، الشاب الخدوم الذي تراه كالنحلة تنتقل بخفة من وردة لأخرى تجمع رحيق العسل، لم تعنِ له الحياة إلا كما عنت لأخيه ابراهيم والشهداء من رفاقه، طريق عبور إلى الخلود.. فتسلح بالشجاعة والاقدام، وكان يتحدث عن الشهادة حديث المشتاق إلى أحبائه، ولا يفتأ يوصي أهله : "عليكم بالصبر، ثم الصبر، ثم الصبر" ..
اختصر محمد بعمره الصغير، سنوات طويلة من الجهاد والعمل والتضحية، وقد ضخت العائلة المجاهدة في نفسه عزيمة المُضيّ إلى ربه، فمن كان مثله سلك طريق الوصول إلى الله، وكانت عباداته بل كل سكنات حياته عروجاً فلا بدّ له من الوصول. كان محمد تلميذ الحاج خليل، تعلم منه الصبر على الضيم، والصمت عند ضيق الخناق، وفي العمر ذاته الذي ارتفع فيه ابراهيم إلى الرفيق الأعلى، التحق محمد بركب الشهداء والصديقين عندما بلغ الثانية والعشرين من عمره، وذلك أثناء قيامه لصلاة الصبح، وبينما هو يتوضأ داخل المنزل، فإذا بالقصف من موقع برعشيت يصيب منزلهم ليسقط شهيداً أمام ناظري والديه.. ربط الحاج خليل بالصبر على قلبه، وقد زف أخويه شهيدين وقبضته تشد على بندقيته شوقاً للالتحاق بهما.. تاريخ طويل من الجهاد، تنقل خليل من مكان إلى آخر، من مهمة استطلاع إلى عملية عسكرية، إلى كمين، إلى زرع عبوة، وذات مرة أدت عبوة زرعها في محور بنت جبيل إلى قتل خمسة جنود صهاينة وعدد من العملاء. وفي النهار كان يتابع عمله في القرية وكأنه طوال الليل لم يكن يحاكي الأودية والجبال.. عايش مراحل الجهاد بمختلف المراحل، فهو الاسير الذي عذب لأجل خياراته المقاومة، ولكم تعرض منزله للمداهمة والتفتيش، وهو المجاهد الجريح، فقد اصيب اثناء مهمة استطلاع في منطقة صربا اصابة في الظهر زادته اصراراً على متابعة الطريق.. وإلى جانب عمله العسكري، كان رجلاً اجتماعياً بامتياز، فأسس في البلدة لجنة زراعية، وعمل على بناء مستوصف، وكانت الفرحة لا تسعه وهو يرى الرضا في عيون الناس الذين يقوم بخدمتهم.. لم يكن الحاج خليل يهدأ، فلا يكاد ينتهي من عمل حتى يكون قد فكر وبادر لآخر، حتى لُقّب بالحاج "أبو المشاريع"، وهو بهدوئه الغريب وصمته الطويل يرسل تلك الابتسامة الصافية ويومئ برأسه مطمئناً بأن كل شيء سيكون على ما يرام بإذن الله ..
وكانت حرب الوعد الصادق، طار فرحاً بعملية الاسر، والتحق بعمله منذ اليوم الأول، وقد ودع عائلته عبر الهاتف. وحينما ذهب لوداع والديه، كان يخرج ثم يعود ويطلب رضاهما، وأخيراً طلب المسامحة من الجميع وذهب إلى الجبهة.. لم يتغير شيء في حرب تموز، فالاقدام والشجاعة والتفاني والايثار وكل ما حمله الحاج خليل طوال عمره، تجلى أيما تجلٍّ في هذه الحرب، وكانت مدينة حيفا تتلقى صواريخه الغاضبة في كل يوم.. وحتى الصمتُ ظلَّ سمته البارزة فيها، فحيث كان والاخوين اللذين استشهدا معه، عُثِرَ على شريط فيديو مصور سأله خلاله الشهيد حسن وهيب ياسين عن رأيه في هذه الحرب، فابتسم وسكت ثم قال : لا ينفع الكلام .. هناك في قرية البازورية مواكب الشهادة لا تنتهي.. فهي كغدير الحياة، تنفجر من الصلد لتسقي التراب ولتحيي ما هو رميم.... وعاد الحاج خليل إلى قريته برعشيت، شهيداً ، ليرقد بسلام قرب أخويه، ولتظللهما يد الام الراضية وبسمة الاب المرضية ، فسلام عليهم شهداء عند مليك مقتدر.