الشيخ يوسف سرور
تتضافرُ العناصر المتجانسة، محاوِلةً تجنُّب ما يحرف عن الهدف، مُصرَّةً على التَّواصل والتَّلاحم وصولاً إلى الاتِّحاد - لا يثنيها عن سعيها عائق، ولا يمنعُ تلاقيها سوى عجزها عن تجاوز الموانع والسُّدود. حركةُ الأشياء باتجاه غاياتها هي من صميم الطَّبيعةِ المفطورة عليها؛ أي أنَّ المسار التكوينيَّ المرسوم ربانيّاً للعناصر من أجل بلوغ النِّهاياتِ المرجوَّة، هو الذي يدفعُ باتجاه التَّكامل والتَّعاون بين المتجانسات من هذه العناصر.
وليس هناك من إمكانيَّة للتخلُّفِ عن هذا المسار؛ حتَّى تزاحم الغايات، فإنَّهُ يرسمُ سلَّماً أصيلاً لأولويَّات الأشياء، متقدِّماً على الأولويَّاتِ الفرديَّة، يجعلُ المفرداتِ تتفانى في كدِّها وسعيها الدَّؤوبِ من أجل الغاياتِ الكبرى، مضحِّيةً بغاياتها الخاصَّة، بل تصبحُ الغاياتُ الخاصَّةُ هنا مُنكدَّةً في صلبِ الغاياتِ العامَّة، وتصيرُ عندها الخصوصيَّاتُ الفرديّةُ في معرض الضَّياع، ليأخذَ المشهدُ العامُّ صورتَهُ وتغيب عندها النُّتوءاتُ التي تُذكِّرُ بالتَّعدُّد والكثرة، موحياً هذا المشهد - بأصلِ الوجودِ ومشيراً إليه، مؤكِّداً في كلِّ استحقاقٍ أنَّهُ آيةٌ من بدائع الباري، ومثبتاً بالتالي - أنَّ النِّظامَ الذي يحكمُ الوجود، يحكي وعياً ما، حتَّى في الأشياءِ المُدَّعى أو المصنَّفةِ أنَّها غير عاقلة، وأنَّ حركتها نحو غاياتِها متخفِّفةً من خصوصيَّاتها وفرديَّاتها، ملتحقةً بالرَّكبِ العامِّ نحو الهدفِ الأعلى أنَّ كلَّ ذلك يحصل مدفوعٌ بهذا الوعي المستوطن في جواهر الأشياء.
فلولا هذا التَّكاملُ المشهودُ بين أجزاءِ كلِّ ظاهرةٍ من الظَّواهرِ الطبيعيَّةِ، لتوقَّفت حركةُ الموجودات، ولتعطَّلت عن أداء وظائفها، ولَفَسدَ النِّظامُ البديعُ الَّذي تُفسِّرهُ سننُ الطَّبيعة، ولتخلَّفت بالتَّالي عن رسمِ المشهدِ المُذهلِ في كلِّ عام، عندما يلبسُ العالمُ ثوباً مطرَّزاً من أزهى خيوطِ الجمال، تنتظمُ فيه الألوان، وتتجلَّى رقَّةُ البراعمِ وتوثُّبها، مشتدَّةً في سبيل القدرة على العطاء؛ ولتؤكِّد بالتَّالي - هذا الاقتدار على التَّجدُّد، وأنَّهُ مع البذلِ والتَّضحيةِ بصغائر الأمور- وأحياناً بالذَّاتِ والكيان - تستقيمُ الحياة، تنمو الزُّروع، تينعُ الثِّمار، يطيبُ الهواء، تفوحُ العطور وتتفجَّرُ الينابيعُ لتسيل أوديةٌ بقدرها. هذا حالُ الكائناتِ الَّتي اختطَّت لها يدُ القادرِ طريقاً تكوينيَّاً وكلٌّ ﴿يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ (الإسراء: 44).
التَّكاملُ في سبيل تحقيقِ الأهدافِ العامَّة، هو شأنُ الأممِ الرَّاقيةِ من البشر، الَّتي يتعاهدُ أبناؤها على الانتظامِ في الأُطرِ العامَّة، مُضحِّين بخصوصيَّاتهم عند الاستحقاقاتِ الكبرى، من أجلِ تجاوزِ المنعطفاتِ بأقلِّ الأضرار، ومن أجل القفز بالأممِ خطواتٍ نحو التقدم والرقي، مظهرين صورة راقية عن وعي الذات. أين هي أمَّتُنا من هذهِ السُّنَّة الإلهيَّة السَّارية في ضلوعِ الكون ونسيج أعصابه؟! عند الحديث عن عناصرِ التَّجانس، فليس هناك أمَّة من الأممِ ولا شعبٌ من الشُّعوب، يُمكن أن تجد ما يجمعُ أفراده ويوحِّدهم بمثلِ ما تجدهُ عند هذه الأمَّة وشعوبها، عند أفرادها وأبنائها؛ من التَّاريخِ المديدِ الَّذي نتغنَّى كلُّنا بأمجادِه والَّذي جعلَ أمَّتنا في صدارةِ الأمم،.. إلى الجغرافيا الَّتي ترفدُ العالم كلَّه - لو أرادت، وليس فقط الأمَّة بكلِّ حاجاته (ليتها تتكامل)، إلى الأزماتِ التَّي تُثقلُ كاهلَ كلّ شعوبنا، إلى الاستهدافِ الشَّامل، لضمير هذهِ الأمَّةِ ووعيها وثقافتِها وهويَّتها..إلى ما هو أعظمُ وأكثر مدعاةً للوحدةِ والائتلاف.. إلى الدِّين والعقيدة والكتابِ والرَّسول.. إلى هذهِ المسيرةِ الَّتي ألهبتِ الماضي ملاحمَ وبطولات، وسطعَ ضوؤها على أربعِ جهات الأرض. أفَلا ننفضُ عن أنفسنا غبارَ الجهلِ بماضينا والحاضرِ والمستقبل، ونتقمَّصُ "وعياً ما"، لتتَّحدَ كلمتُنا ويلتئم شملُنا ونسير نحو غاية الخلق العظمى ونقدِّم للعالم ثقافةً جديدةً في الحياة؟!..