السيّد علي عباس الموسوي
يعيش الإنسان في هذه الحياة الدنيا في النعم الإلهيّة ملء عينيه، فكلُّ ما لديه هو من عطايا ربِّ العزة والجلال، الذي أعطى هذا الإنسان دون حساب، وبلا مقابل، وبلا نفع يصل إليه لأنَّه غنيٌّ عن العالمين. وأمّا ما يعطيه الإنسان فإنَّه مهما عظم وكبر يبقى قليلاً ومحدوداً ومتناهياً. وعطاء الإنسان هذا لا يكون إلا بحساب، فهو يُعطي ونظره إلى المقابل وإلى ما يصله من نفع، فلا يُعطي بغير منّة.
والله عزَّ وجلّ بعد أن وهب الإنسان كلَّ هذه النّعم وجَّه إليه تكاليف، ولم يرد من هذه التّكاليف أن تكون بدلاً عن نعمه، بل أرادها لمصلحة العباد، ولِمَا فيه نفعهم والخير لهم. ولذا كان الوعد الإلهيّ لمن يلتزم بهذه التكاليف بأن تناله الرّحمة الإلهيّة والنّعم في الآخرة وفي الدنيا. وهذا تفضُّلٌ من الله عزّ وجل على عباده. ولكنَّ هذه التكاليف كما ترجع بالنّفع المادّيِّ على الإنسان فإنَّها ترجع بالنّفع المعنويّ أيضاً، وهذا النّفع المعنويّ يرتبط بعلاقة الإنسان بربِّه، فالإنسان كلَّما التزم بالطاعات والأوامر الإلهيّة وتجنّب ما نهى الله عنه، كان أكثر ارتباطاً بالله عزّ وجلّ، وهذا حال المؤمن المتعبِّد بالأحكام الإلهيّة فإنّه يتقرّب إلى الله عزّ وجل، وفي كلِّ عبادة وطاعة ينال درجةً من القرب.
وكلما رَقَت نفس هذا الإنسان في الإخلاص لله عزّ وجل، فجعلت أفعالها كلّها خاضعةً للإرادة الإلهيّة، فلم تقتصر في نيّتها الخالصة لله عزّ وجل على العبادات، بل كانت في المباح مريدةً لما يريده الله، ممتثلةً لأمر الله عزّ وجل، تأتي به لوجه الله كلَّما استطاعت أن تقترب من الله أكثر. وكلَّما تمكَّنت هذه النفس من أن تتخلَّص من غير الله فلم تجد إلا الله عزّ وجل لها غايةً وهدفاً، ولم تر إلا الله عزّ وجل في كلِّ شيء كلَّما تمكَّنت من أن تكون أكثر خلوصاً لله عزّ وجلّ.
هكذا يبدأ الإنسان بالتقرّب إلى الله عزّ وجلّ، ويتدرّج في درجات القرب. والله عزّ وجل يُعين هذا الإنسان بعد أن يخطو خطوته الأولى ليتمِّمَ مسيره هذا. والمعونة الإلهيّة كما تكون في التوفيق للطاعات، والابتعاد عن المحرَّمات، تكون أيضاً في صرف الإنسان عن التفكير بغير الله عزّ وجل، وفي جعل كلِّ ما يشغله هو الوصول إلى الله عزّ وجلّ والقرب منه. وهكذا يتدرَّج الإنسان في الطاعة فيُصبح مخلِصاً بالكسر لله عزّ وجل وبعد ذلك يُصبح مخلَصاً بالفتح أي يخلِصه الله عزّ وجل لنفسه. ولكن ما يستوقف الإنسان هنا أنّ الله عزّ وجلّ قد يخصّ بعض عباده بالعناية في إخلاصهم لنفسه، ولذا فإنّ مِنْ عِبَاد الله عز وجل من كان الله عزّ وجل هو المخلِص له، وهو المصطنع له وهذا ما ورد في القرآن الكريم وصفاً لنبي الله موسى عليه السلام حيث قال تعالى مخاطبا إياه: ﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾ (طه: 41) أي إنَّ الله تعالى أخلصه لنفسه، اختاره لنفسه.
وحيث يتحقَّق ذلك يُصبح هذا العبد الخالص لله حجة بين الله وخلقه دعوته دعوته، عبداً يكفل هداية النّاس إلى طريق الله عزّ وجل. ولذا كان الأمر الإلهيّ لموسى عليه السلام بعد هذا الاصطناع بأن يذهب ليعمل على هداية العباد من ضلالهم، فبعد أن صار مهدياً أُمِرَ بأن يكون هادياً. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.