الشهيد الشيخ راغب حرب (رضوان الله عليه)
يتحدّث الشيخ راغب حرب (رضوان الله عليه) في هذا المقال عن أهميّة شهر رمضان، وضرورة اغتنامه كفرصة لغفران الذنوب والولادة من جديد روحيّاً ومعنويّاً. فلنتعرّف على كيفيّة تحقيق ذلك.
•أهميّة شهر رمضان
لا يمكن أن نتجاوز في حديثنا موضوع الشهر الذي نحن فيه، وهو شهر رمضان، انطلاقاً من إحساسنا بأنّه لا ينبغي أبداً أن يمرّ هذا الشهر العظيم من دون أنْ ننتفع منه أقصى النفع، وهو غفران الذنب، حيث إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكر في خطبته حول هذا الموضوع أنّ رحمة الله في هذا الشهر واسعة، وأنّ الشقيّ فقط هو الذي يُحرم غفران الذنب فيه.
•أصناف الصائمين
إنّ كلّ صائم هو رابح وناجح، وهذا أمرٌ لا ريب فيه، كما هو نصّ الدعاء المعروف: "إلهي، ربح الصائمون، وفاز القائمون ونجا المخلصون"(1). ولكن هل الصائمون كلّهم في مرتبة واحدة من الأجر؟ الجواب هو كلّا، فليس كلّ صائمٍ له مرتبة الآخر نفسها من الأجر. وعندما يدخل الإنسان في شهر رمضان الكريم، لا بدّ من أن يخرج منه على حالةٍ من حالتين: إمّا كما دخل، وإمّا إنساناً جديداً.
1- الذي يخرج منه كما دخله: إنّ الإنسان يُعرف بتجدّده، ومن لا يتجدّد ليس حيّاً. فالذي يدخل شهر رمضان بنسبةٍ معيّنة من التقوى، وخشية الله، والصبر على المكاره، وعلى ما حرّم الله تعالى، ثمّ يخرج منه ولم يستفد في إرادته، وقواه، وابتعاده عمّا حرّم الله، وخشيته من ربّه، هو إنسانٌ في المرتبة الأدنى للرابح؛ لأنّ دخوله كان طقسيّاً وميّتاً. وفي هذه الحالة، يخرج من شهر رمضان بجائزةٍ واحدة، هي بدل جوعه وعطشه. ألم تسمعوا قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيما يُروى عنه، حيث يقول "رُبّ صائم حظّه من صيامه الجوع والعطش، ورُبّ قائمٍ حظّه من قيامه السهر"(2)؟!
هذا يعني أنّ الإنسان الذي لا يستفيد من شهر رمضان، لا ينال سوى أجر تعبه؛ لأنّ الله لا يمكن إلّا أن يوفّي الناس أجورهم، وإن كان أجر تعبه عظيماً وكبيراً.
وعلى الرغم من ذلك، فالصوم في أدنى حالاته هو عملٌ عظيم، له دلالته العظيمة، وإن كان لا يستفيد منه صاحبه شيئاً؛ فعلى الأقلّ، الصائم إنسانٌ قادرٌ على أخذ القرار فيما يريد، وأن يمتنع عمّا يريد إذا أمر الله، وأن يفعل ما يريد إذا أمر الله. فالصوم في حالته الأدنى إثباتٌ للإنسانيّة، وللقدرة على الفعل والترك.
2- الذي يخرج جديداً: وأمّا الرابح الأكبر، فهو الذي يولَد في شهر رمضان ولادةً جديدة. ما المقصود بالولادة؟ هل أن يتغيّر لون بشرته مثلاً، أو شكل وجهه، أو طوله وعرضه؟! لا، الذي يولد من جديد في شهر رمضان هو روحيّة الإنسان، وعقليّته، وإرادته، وتوجّهه.
ومن مشاكـــل المسيرة الإنسانيّة، أنّ الإنسان يمكن أن يخرج عن الصراط المستقيم، ثمّ يتوغّل في السُّبل الأخرى، إذا وقع في مصيبة، والله يقول: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ﴾ (الأنعام: 153). وقد وضّح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السُّبل بأنّها خطوطٌ شبيهةٌ بالصراط والحقّ. فالإنسان في كثيرٍ من الحالات يتورّط من حيث لا يعلم، بخروجه عن صراط الله المستقيم، ثمّ ينطلق في السُّبل حتّى إذا أوغل السير فيها، وعرف أنّه خرج عن جادّة الحقّ، أراد أن يرجع إلى الله وهذا يحتاج إلى فرصة. وشهر رمضان هو فرصةٌ للرجوع والعودة إلى الله، ولمراجعة كلّ الطرق الماضية.
•خلل الحياة العامّة
إنّ عقائدنا سليمة وصحيحة نظريّاً، ولكنّها في الواقع غير صحيحة عمليّاً. نحن نؤمن أنْ لا إله إلّا الله، وأنّ محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم عبده ورسوله، وأنّ الموت حقّ، وأنّ الآخرة حقّ، ونؤمن بالكتاب الكريم... لكن عمليّاً، الكثير من المسلمين لهم مع الله أرباب، مثل أرباب المال، والاستعمار، والجاهليّة، وكذلك الخوف والرغبات... والقرآن تحدّث عمّن يتّخذ إلهه هواه.
صحيح أنّ محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم هو رسول الله الذي نستمدّ منه أحكام دنيانا وآخرتنا، أمّا على صعيد العمل، فقد اتّخذنا من كلّ من قال أو كتب في مرحلة عصر الغربة نبيّاً لنا، حتّى أصبح أنبياؤنا كثراً!
فالترّهات والضلالات الجاهليّة، أثّرت في حياتنا العامّة أكثر من تأثيرها في حياتنا الخاصّة، إذ إنّ الأخيرة لا زالت أكثر إسلاماً، وإيماناً، وقرباً من الله. أمّا العامّة، فهي أكثر قرباً من الجاهليّة. وكما أنّنا نخشى أن يعذّبنا الله بأعمالنا الشخصيّة، كذلك نخشى أن يؤاخذنا بأعمالنا العامّة؛ لأنّه يؤاخذ على الأعمال كلّها في الدنيا والآخرة. فالشيطان يغرّ بعض الناس بأنفسهم، ويصوّر لهم أنّ مسألة العذاب والعقاب مؤجّلة بالمطلق، ولكنّ الواقع أنّ الحياة الخاصّة فيها ذنوبٌ قد يعجّل الله بها، وكذلك الحياة العامّة، فيها ذنوبٌ قد يعجّل الله بها.
•إعادة النظر
الذي يريد أن يستفيد الفائدة الكاملة من شهر رمضان ويولد من جديد، عليه أن يدخله وعينه على ما مضى من عمره، فيعيد النظر في كلّ شيء.
فإذا ختم المرء كتاب الله مرّةً على الأقلّ، وهو من جملة المستحبّات العظيمة في هذا الشهر، ينبغي أن يعيد النظر في حياته كلّها على أساسه. وعندها، إذا كانت التلاوة من دون هذا المغزى، فإنّه لا جدوى عظيمة منها.
نحن معنيّون -إذاً- بضرورة إعادة النظر في كلّ تفاصيل حياتنا، سواء على المستوى الشخصيّ والفرديّ أو العام. فالأوّل، هو أمرٌ يبحثه كلّ إنسانٍ مع نفسه؛ وأمّا الثاني، فأمرٌ يبحثه الجميع بعضهم مع بعض. نحن بحاجةٍ إلى إعادة النظر في عقائدنا، وأفكارنا، ومفاهيمنا؛ لأنّه، وعلى الرغم من أنّنا تجاوزنا عصر الغربة الإسلاميّة، إلّا أنّ تأثيره لا زال في عاداتنا، وأعمالنا. كما ينبغي أن نُعيد النظر في أعرافنا وتقاليدنا؛ فما كان منها طِبق الإسلام أبقيناه وثبّتناه، وما كان مخالفاً له نبذناه وأرجعناه إلى مصادره.
•كيوم ولدته أمّه
من يُعيد النظر في كلّ شيء قبل انتهاء شهر رمضان، ويتذكّر بجوعه وعطشه -كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- جوع يوم القيامة وعطشه، ويوطّن نفسه على أن يتعلّم من هذا الشهر شيئاً واحداً، وهو أن يكون عبداً لله وحده فقط دون سواه، علِم الله تعالى أنّه صادق القول والنيّة في ذلك، فخرج من هذا الشهر كيوم ولدته أمُّه تماماً، فلا ذنب عليه، ولا سيّئة مسجّلةٌ عند الله في كتابه، ذلك أنّه جدّد نفسه وتفكيره وعمله بالإسلام، وصنع إرادته بالإسلام، فيعطيه الله تعالى عندها صفحةً جديدةً للحسنات والمكرمات.
•فائدة عظيمة
يتوجّب علينا في هذا الشهر، وهو مناسبة استثنائيّة، أن نعبد الله، ونرفع راية الإسلام لتكون الحاكم، والحكم، والقانون، والعرف، والأسس التي نعمل عليها الآن، ونربّي أجيالنا الآتية للعمل عليها. على المستوى الشخصيّ، قد يستطيع الإنسان اتّخاذ القرار، فيتجدّد في شهر رمضان، لكن على المستوى العام، يكفينا أن نقرّر أنّنا نريد أن نتجدّد، وأن يأتي علينا عيد الفطر السعيد ونحن نملك في أنفسنا قراراً بضرورة إعدام الجاهليّات فيما بيننا، وتكسير الأصنام المنتشرة في أزقّتنا، وشوارعنا، ومؤسّساتنا، وفي كلّ مكانٍ من أماكننا. يكفي أن نتّخذ هذا القرار، فنكون قد استفدنا من هذا الشهر فائدةً عظيمةً وجديدة.
(*) خطبة جمعة، ألقاها الشيخ راغب حرب (رضوان الله عليه)، بتاريخ 18/7/1980م.
1.مفاتيح الجنان، الشيخ عبّاس القمّي، من أدعية ليالي شهر رمضان، ص296.
2.وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج1، ص72.