يَعبُر الإنسان في حياته مراحل، ينتقل فيها من النقص إلى الكمال، ويسعى لاكتساب المزيد ممَّا يتوافر أمامه من نِعَم ماديَّة ومعنويَّة، ويسعى لاستثمار طاقته في سبيل الوصول إلى ذلك. ومِنَ النِعَم المعنويَّة نعمةُ الهداية الإلهيَّة التي يُنعم الله عزَّ وجل بها على عباده، فيرقى الإنسان من خلالها إلى مدارج الكمال.
بعد ذلك، إذا اكتملت في الإنسان هذه الصفات فإنَّها تؤهِّله لأن يكون هادياً للآخرين، فلا أنانيَّة في خطِّ الهداية، بل من يصل إليه يدعو الآخرين إلى الاقتداء به، والله عزَّ وجل أمر بذلك، فكلَّف عباده جميعاً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم الجاهل، وكلَّف من اختاره واصطفاه واجتباه من عباده لكي يكون رسولاً يدعو إليه وإماماً يسوق الناس إلى الله عزّ وجل. وعندما بيَّن القرآن الكريم قصص الأنبياء وما جرى عليهم أراد بذلك أن يرشد سائر الناس إلى أنَّ الدعوة إلى الله عزَّ وجل تكتنفها مصاعب جمَّة، وأنَّ هؤلاء الذين اختارهم الله عزّ وجل لم يكن اختياره لهم عبثاً، بل كان لأسباب، لأنَّ أفعاله لا تصدر إلا عن حكمة فاختياره لهؤلاء إنَّما هو لأسباب تنبئ عن حكمة إلهيّة. لم يقع الاختيار الإلهيّ على أفراد من البشر فكانوا محلاً للاصطفاء والاجتباء إلا لأنَّهم امتلكوا من الصفات ما أهَّلهم لذلك. وتحدّثنا الآيات عن صفتين يمتاز بهما هؤلاء المصطَفَون:
الأولى: اليقين، فلا يمكن لإنسان أن يدعو الآخرين إلى شيء لا يمتلك هو الطمأنينة فيه، ويعيش حالة التردّد والشك؛ لأنَّ ذلك سيظهر في فلتات لسانه وفي مدى نفوذ كلماته، وتأثير أسلوبه على الآخرين. وهؤلاء حيث كانوا من أصحاب القلوب المطمئنّة في الخطِّ الذي يسيرون فيه فإنَّهم تمكَّنوا من تحمّل عبء الرسالة.
الثانية: الصبر، وهو تحمّل الشدائد، فهؤلاء مع أنَّهم يحملون للناس ما فيه خيرهم وصلاحهم، ولكنَّهم واجهوا الرفض المقرون بالاستهزاء والازدراء وغيره، ولكنَّ ذلك لم يثنهم عن مواصلة الدعوة والهداية إلى الحق، فتحمَّلوا الكثير حتَّى تمكنوا في النهاية من هداية جماعةٍ من الناس قليلةً كانت أو كثيرةً إلى الحقّ. وإذا كان هذا ما يميِّز هؤلاء، فإنَّ كلَّ من يحمل لواء الهدى ويرفع راية الحقّ لا بدَّ وأن يكون حاملاً لهاتين الصفتين، فلا بدَّ له أولاً من أن يكون صاحب يقين ويصل إلى ذلك من خلال العمل على تعليم نفسه وتهذيبها، ليصل إلى الهداية على مستوى الذَّات، وينتقل بعد ذلك إلى أداء واجب هداية الآخرين. ولا بدّ له ثانياً من أن يتحلَّى بالصبر، فمهما كانت الشدائد والمصاعب فإنَّه يعزم ويصمِّم على متابعة مسيرة الهداية هذه واضعاً الأمل الكبير أمامه في أن يهتدي من الناس من يوفِّقه الله لهدايته، فليس لغير صاحب اليقين أن يمارس فعل الهداية، وليس لمن لا يتحلَّى بالصبر أن يتصدَّى لذلك، بل الإمامة حقٌ ثابتٌ لمن امتلك كلا الأمرين وهذا ما يحدِّثنا به القرآن حيث يقول: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ (السجدة، 24). وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين