مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

قصة: ما أقسى هذا الرجل!

محمّد لمع

 


- لقد تمكّن الإخوة من سحب الجثّة. هو موجودٌ الآن تحت شجرة السنديان الكبيرة، حيث نرتاح عادةً.
- سأنطلق فوراً. الليلة سيكون في الضيعة.
- تمهّل يا أبا حسن، فليرافِقْكَ أحدُ الإخوة. انتظرني، سأتصل بهم.
- لا، لن يحضره أحد غيري، ولن يعاونني في حمله أحدٌ. ستكون هذه مهمّتي وحدي.
- وحدك! هذا مستحيل!
- ذلك كان عهداً قديماً قطعته له. وعدته بأن أحضره من أيّ مكانٍ يستشهد فيه، ولو كان ذلك داخل المنطقة المحتلّة.. لن أنكث بعهدي معه.. أنا ذاهبٌ الآن.
- في أمان الله. لا تنسَ جهازك، أبقِه مفتوحاً كي لا نقلقَ عليك، وكن حذراً.. فالمنطقة ما زالت تتعرّض للقصف والتمشيط منذ تنفيذنا العمليّة.

* تائهٌ ومكسور
دخل أبو حسن البيت، بدّل ثيابه المدنيّة، ولبس جعبته، وحمل سلاحه، ثمّ نادى على زوجته طالباً منها أن تأتيَه بالحبل، وغادر البيت مسرعاً.

سار أمام البغلة بسرعةٍ كبيرة، اضطرّت معها الدابّة إلى حثّ الخطى لتجاريه في مشيته. كان يريد الوصول بأسرع ما يمكن. فهو منذ يومين لم يعرف طعماً للراحة ولا النوم، وأراد أن ينهيَ الأمر بأسرع وقتٍ، كي يطمئنَّ قلبُه بلقاء صاحبه ورفيق دربه. كان يمشي مطرقاً رأسه إلى الأرض، على غير عادته، وهو المشهور بهامته المرفوعة وقوامه الصلب. لقد نال منه الخبر المفجع، وكسره، فغدا يمشي محنيّ الظهر، والعينان ثابتتان على صورة جسد مصطفى، الذي يرقد وحيداً منذ يومين، في عراء ذلك الجبل، ينام بين الصخر، وزهر القندول، وجبوب العيزقان، بعد أن تمكّن رفاقه من سحبه من موقع سجد إلى بلدة عقماتا فور انتهاء العمليّة.

* شغف اللقاء
أثناء مسيره، راح يسترجع لحظة إعلامه باستشهاد صديقه، ووقع الخبر عليه، والجملة الوحيدة التي تتردّد في ذهنه: "مصطفى.. استشهد". وبينما هو غارقٌ في أفكاره، أيقظه صوت لهاث البغلة، فانتبه إلى أنّهما صارا قرب نبع الطاسة. وهناك، التقى بكريم عطوي نازلاً من ناحية السهل. بعد عناقٍ وبكاءٍ طويلين، بادره كريم: "صاحبك ناطرك بعقماتا. سحبناه اليوم".

في عقماتا، حيث الانحدار شديدٌ، وقف قليلاً ليريح البغلة، أمّا هو، فلم يشعر بالتعب؛ لأنّ شغف اللقاء أنساه ذلك، كما أنّه لم يستطع أن يتذكّر كيف عبر النهر عند نبع الطاسة والمبنى المدمّر، فكلّ ما يعرفه أن مصطفى ينتظره هناك، تحت شجرة السنديان وحيداً. تابع مسيره مجتازاً المنحدر الشديد بحذرٍ أشدّ، فهذه المنطقة منطقة تسلّل وكمائنَ دائمةٍ للصهاينة، وفيها حصل الكثير من المواجهات. وما صار في منطقة السّهل، خفق قلبه بشدّة، وأحسّ بمفاصلِه تتخدّر، وصار عاجزاً عن المشي أكثر.. فما هي إلّا مسافة قليلة تفصل بينه وبين مصطفى، ولكنّ حزنه على رفيق دربه أصابه بوهنٍ كبير. استجمع ما بقي من قوّته، وركب البغلة مجدّداً، فسارت به الأمتار الأخيرة.. حتّى وصل..

* حبيبٌ يبكي حبيبه
كان هناك جسدٌ ممدّد تحت سنديانة الاستراحة. وعلى الرغم من أنّ الظلام دامسٌ، فقد استطاع تمييزه؛ لأنّ قلبه كان دليله. ومن على ظهر البغلة، ألقى بنفسه فوق رفيقه، وغرقَ في موجةٍ من البكاء، فغسل بدموعه وجهَه ولحيتَه. راح يقبّل كلّ ما بدا له من الجسد الطاهر، قبّل الجبهة العريضة، والأنف المكسور من إصابةٍ سابقة، ثم انكبّ على يديه يلثمهما، وتعلّق بقدميه وحذائه، ودسّ رأسه في حجره، وغرق في نوبةٍ طويلةٍ من البكاء الصامت والأنين. كانا وحدهما في وسط غابةٍ لا ينفذ إليها حتّى ضوءُ القمر، والعدوّ على مرمى حجرٍ منهما، وأبو حسن المعروف بشجاعته وقوّته ورجولته، والذي لم يكن ليبديَ الضعف أمام الناس، مرتمٍ فوق الجثمان يبكيه حسرةً ولوعة.. وها هو بجانب من قال عنه إنّه أبوه، وأخوه، ومعلّمه، ورفيق دربه، وهو صريعٌ الآن بين يديه.. أطلق العنان لقلبه، وراح يبثّ شكواه إلى الصدر الذي لطالما احتضنه، واحتوى أسراره. "أحبيبٌ ينادي حبيبه فلا يجيب؟ هل أقعدك موتٌ عن ردّ سؤالي؟ ها أنا يا مصطفى، على الموعد أتيت، ما تأخرت عنك يا توأم الروح.. خذني إليك.. لا أبقاني الله بعدك.. خذني إليك".

غاب في نوبةِ بكاءٍ ثانيةٍ.. ثم أحسّ بهواءٍ ساخنٍ لفح وجهه. رفع رأسه ليجد البغلة محنيّةً على الجثمان، تلثمه وقد التمعت عيناها، فعرف أنّ هناك من يشاركه الحزن في هذه الليلة! وبعد ساعةٍ، انتبه إلى وشوشات الجهاز فردّ على السائل عن حاله، مطمئناً الجميع عنه وعن صاحبه.

* حسبك إمامك
قام بعزمٍ حيدريٍّ نادرٍ، حمل مصطفى ذا البنية الضخمة، ووضعه على ظهر البغلة بصعوبة، وإذ بها تنحني قليلاً لتساعده في حمله! كانت رجلاه تخطّان الأرض، فثبّته جيّداً حتّى لا يقع، ثم قبّله بين عينيه، طالباً منه العذر، وشاكياً إليه قلّة حيلته: "فمن ذا يُقدّم لأخيه جواد المنيّة؟ وا لهفي عليك محمولاً على ظهر دابّةٍ.. حسبك إمامك يا مصطفى، تدوس صدره الخيل.. حسبك إمامك". ثمّ سار به نزولاً. وفي مشهد يصعب تصديقه، كانت البغلة تمدّ أقدامها بتروٍ كما يفعل الإنسان، ولم تنزل مرتفعاً إلّا وتوقّفت عنده، واجتازته بسلامٍ حفاظاً عليه!

* اللحظات الأخيرة
على عكس الإياب، سار أبو حسن على مهل، هذه المرّة. لم يرِد لهذا المسير أن ينتهي، فقد أراد أن يمضيَ مع حبيبه أطول مدّةٍ ممكنة.. وقد علم أنّه متى وطئت قدماه عربصاليم، سيصبح مصطفى مُلكاً لكلّ محبّيه، أمّا الآن فهو ملكٌ له وحدَه.. عند نقطة النبع، عاونه الإخوة في حمله ونقله إلى سيارة الإسعاف التي اغتنمت فرصة وجود ضبابٍ كثيفٍ، لتنقله إلى جرجوع، فجباع حيث غسّله أبو حسن، وعصّب جبينه بعصبةٍ حمراء مكتوب عليها "يا زهراء"، تنفيذاً لوصيّته. بات مصطفى ليلته في مسجد السيّدة نرجس، حيث اعتاد الصلاة والدعاء مع رفاق دربه، وسهر الإخوة حوله يتلون آياتِ القرآن.

* الجندي المجهول
وفي ظهيرة اليوم التالي، في عربصاليم، كان أبو حسن يسير خلف نعشٍ أصفرَ، تتزاحم حوله الأيدي كأنّه الحجر الأسود، كلٌّ يريد منه البركات.. لم يزاحم أحداً في حمل صديقه، فقد اكتفى بمشوار الأمس! وإلى جانبه، سمعَ شابّين يتساءلان: "من تراه أحضره من هناك؟". فقال أحدهما: "سمعت أنّه ليس من هنا". نظرا إليه ففتح يديه مستغرباً، ثمّ سار إلى روضة البلدة، حيث استودعها رفيق الدرب، ولم يذرف دمعةً واحدةً أمام الناس، حتّى قيل عنه: "ما أقساه من رجلٍ لا يبكي صديقه!".

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع