مقابلة مع سماحة السيّد هاشم الحيدريّ (حفظه الله)حوار: السيّد محمّد السيّد موسى
في ظلّ التحديات الكثيرة الراهنة التي تعصف بمجتمعاتنا وثقافاتنا، والتي أصبح معها المنكر معروفاً، والمعروف منكراً، كما الحقّ باطلاً والباطل حقّاً، ظهرت إلى الواجهة أهميّة الوعي والبصيرة، من أجل التنبّه إلى هذه المخاطر المحدقة بنا ومواجهتها، وبالتالي ترسيخ دعائم هذا الدين، بشكلٍ لا تقوى عليه أعاصير الكفر والاستكبار في العالم. وعن هذا الموضوع، يتحدّث سماحة المجاهد السيّد هاشم الحيدريّ (حفظه الله)، الــــمعاون الثقافي لمسؤول الحشد الشعبيّ في العراق، في مقابلة أجرتها معه مجلة (بقية الله).
* بدايةً، نرحّب بسماحة السيّد ونرغب في أن يكون سؤالنا الأوّل حول مفهوم البصيرة؟
البصيرة هي القدرة على مواكبة الأحداث، بل هي النور الذي يستطيع الإنسانُ من خلاله أن يرى الأحداث بشكل جليّ، بحيث يرى الحقَّ في أمواج الفِتَن والمنعطَفات المختلِفة، يقول تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ (الحج: 46). والسيّد القائد دام ظله يشبّه البصيرةَ بالبوصلة التي تحدّد الاتجاه الصحيح للقافلة التي تمشي في الصحراء، بحيث لو فَقدت هذه القافلةُ البوصلةَ ستنحرف عن مسارها الصحيح، وكذلك الإنسان عندما يفقد البصيرة، فإنّه سينحرف عن الحقّ.
والبصيرة شرطٌ لازمٌ لنجاة الإنسان، وليست شرطاً كافياً، فكثير من الذين قاتَلوا الإمامَ الحسين عليه السلام يعرفون أنه ابنُ بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن منعتهم أمور أخرى عن نصرة الحقّ.
* كيف يمكن التحلّي بصفة البصيرة وترسيخُها كملَكة ثابتة؟
البصيرة لا تورَّث، ولا تُهدى، ولا تُدرَّس، فهي ليست حالة اجتماعيّة، بل هي صفة يجب أن يَعمل الإنسان على تحصيلها بنفسه. ومن أهمّ الأمور التي يجب التحلّي بها من أجل امتلاك البصيرة وترسيخها الآتي:
1- الدعاء: كما ورد: "اَللّهُمَّ، اجْعَلْ... وَالْبَصيرَةَ في دِيني"(1).
2- التفكّر: كما ورد في قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً﴾ (الأنفال: 29)؛ إذ في كلامٍ لسماحة الإمام القائد الخامنئيّ دام ظله يقول: التقوى في الآية بمعنى التفكُّر.
3- التواصي بالحقّ: وسورةُ العصر تدلّ بشكل واضح على ذلك ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ﴾ (العصر: 3).
4- الإخلاص وعدم التعصّب: البصير لا يتقيّد بقومه، أو بأهله، أو بعشيرته، أو بأبناء بلده... إنّما يتّبع الحقّ أينما وُجد. فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "إن كُنتُم لا مَحالَةَ مُتَعَصِّبينَ، فتَعَصَّبوا لِنُصرَةِ الحَقِّ، وإغاثَةِ المَلهوفِ"(2).
* هل يوجَد في التاريخ نموذج عمليّ يبيّن خطورةَ فقدان البصيرة؟
ثمّة أمثلة كثيرة في التاريخ، من أبرزها معركةُ صِفّين، حيث بدأ جيش الأمير بالقتال، وكان متفوّقاً من الناحية العسكريّة، ولكنّ الكثير من المقاتلين سقطوا في امتحان المصاحف وفتنته، وهي مؤامَرة إعلاميّة، حيث رفع جيشُ معاوية المصاحفَ على رؤوسهم بعد أن شعروا بالهزيمة، وقالوا: "دُعينا إلى كتاب الله، ونحن أحقّ بالإجابة إليه"، فقال لهم أمير المؤمنين عليه السلام: "وهي كلمة حقّ يُراد بها باطل"(3).
في هذا المنعطَف الفكريّ، كان جيشُ عليٍّ بحاجة إلى البصيرة، وعندما فُقدت البصيرة، فُقدت القدرة على تمييز الحقّ من الباطل، فانتصر جيش معاوية.
* كيف استفاد محور المقاومة اليومَ من صفة البصيرة؟ وما هي نتائجُها الميدانيّة؟
إنّ من أهمّ العوامل التي يمتلكها محور المقاومة اليومَ استفادتُه من الإمام السيّد القائد الخامنئيّ دام ظله، فهو إمام البصيرة وسيّدها في زماننا.
عندما اندلعت المعارك في سوريا، كان بعض المتديّنين يقول: ما لي ولسوريا! أنا عراقيّ، أو أنا لبنانيّ، أو أنا إيرانيّ مثلاً. هنا نحتاج إلى البصيرة والتي تمثّلت بسماحته، حيث بيّن أنّ القتال في سوريا ليس قتالاً عن بلد، بل عن جبهة المقاومة، وعن عمود من أعمدتها.
* إلى أيّ مدى ترتبط البصيرة بمرحلة الانتظار والتمهيد للإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف؟
ورد في رواية عن الإمام الرضا عليه السلام: "واللهِ، لا يكون ما تَمدّون إليه أعيُنَكُم حتّى تُمحَّصوا وتُميَّزوا، وحتّى لا يبقى منكم إلّا الأندَرُ فالأندَر"(4).
في هذه الفتن، يحتاج الإنسان إلى البصيرة، فقد وصفت بعضُ الروايات المنتظِرين بـ"أهل البصائر".
عندما غاب نبيّ الله موسى عليه السلام، وخلفه هارون، جاء السامريُّ بخدعة العجل، وأضلّ الناس عن اتّباع هارون. في ذلك الزمن، كان بلاء الناس بهارون، فالكلّ كان يدرك وجوبَ طاعة موسى عليه السلام، إلّا أنّهم امتُحنوا بهارون. ولذلك، عندما عاد موسى، قال: ﴿بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ﴾ (الأعراف: 150)، معاتباً لهم لأنّهم لم يطيعوا هارون.
فنحن أيضاً ندرك وجوبَ طاعة إمام زماننا عجل الله تعالى فرجه الشريف، ولكن فتنتنا تكمن في معرفة نائبه ووليّ أمرنا في زمان غَيبته، عن طريق البصيرة، والذي هو السيّد عليّ الخامنئيّ دام ظله، نائبُ الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف والموصلُ إليه. كما يجب الوثوق بكلّ ما يصدر عنه من تحليلات، ومواقف، واستشراف للمستقبل؛ لأنّه دائماً يكون صائباً والحمد لله.
ولهذا، يؤكّد سماحة الإمام القائد دام ظله ضرورة أن تمتلك الجبهة، والشعوب، والأمم البصيرة. فالمؤمن من دون بصيرة لا يمكن أن يأمن النجاة؛ لأنّه قد يقع في مؤامرة كمؤامرة صفّين، ويصير كالخوارج، وما أكثر الخوارج في زماننا! هؤلاء المسلمون الذين يقفون ضدّ المقاوَمة، والجمهوريّة، وحزب الله؛ هم خوارج بسبب فقدانهم البصيرة.
* كيف تنظرون إلى جهاد المقاومة الإسلاميّة في لبنان؟
إنّ حزب الله هو الثمرة الأولى، والأعمق، والأقدس للثورة الإسلاميّة، ولحركة الإمام الخمينيّ قدس سره التاريخيّة والكونيّة. فشباب حزب الله لا يمكن أن يوصَفوا بأنّهم مجاهدون عاديّون، إنّما هم أهل بصيرة، لا بل يمكن أن نطلق عليهم أنّهم "نافذو البصيرة"، كما أطلق الإمام الصادق عليه السلام على عمّه العبّاس عليه السلام.
كما أنّ تعامل حزب الله مع الولي الفقيه ليس تعاملاً فقهيّاً وانتظاراً للأحكام فحسب، بل هم حزبُ عشقٍ للولاية، وليسوا حزبَ فقهٍ وطاعةٍ فقط.
* من خلال مواكبتكم للثورة الإسلاميّة ولحركات الجهاد الآن، كيف ترَون تطوُّرَ مفهومِ البصيرة من زمن الإمام الخمينيّ قدس سره إلى زماننا؟
برز عمرو بن ودّ العامريّ كنموذج للضلال في معركة الخندق، وقال: "هل من مبارِز؟"، فلم يجرؤ على مبارزته أحد سوى عليّ بن أبي طالب عليه السلام. ومنذ أربعين عاماً، قال الشاه بلسان الحال: "هل من مبارز؟"، فحمل حفيدُ عليٍّ روحُ الله الموسويّ الخمينيّ قدس سره سيفَه، وقال: "أنا أوّل المبارِزين". واليوم، أصبح روحُ الله أمّةً وجبهةً تقف كلّها أمام عمرو زماننا.
في الوقت الحاضر، كلُّ الذين نفروا من بلادهم إلى ساحات الجهاد، للمشاركة في الدفاع عن الدين والمقدَّسات، سواء في سوريا، أم في العراق، أم في اليمن؛ تجلّت فيهم البصيرة بمعناها الأسمى.
أنا أجزم أنّ تاريخ الإسلام والأنبياء كلّه لم يشهد زمناً كزماننا الحاليّ، إذ إنّه زمنٌ استثنائيٌّ في انتصاراته، وبصيرته، وقيادته، وطاعته، وسَعة جبهة المقاومة والولاية، وما ذلك إلّا بسبب هذا الوعي وهذه البصيرة.
* هل من كلمة أخيرة تنصحون بها الشباب؟
أنصح جميع الشباب بمتابعة خطابات السيّد القائد دام ظله جملةً بجملة، وكلمة بكلمة، وحرفاً بحرف، خاصّةً وأنّه يقدّم مفهوم البصيرة بشكلٍ مبسّط للشباب.
يجب أن نصل إلى مرحلة لا نحتاج فيها انتظار الأمر من قائد المقاومة الإمام الخامنئيّ دام ظله، بل نستشرف كلامه، ونفهم ما يريد وما يحبّ، من دون أن ينطق بشيء.
وأقول للجميع: عليكم بالبصيرة...
1- إقبال الأعمال، السيّد ابن طاووس، ج2، ص78.
2- عيون الحكم والمواعظ، الليثي الواسطي، ص163.
3- نهج البلاغة، شرح محمّد عبده، ص85.
4- الغيبة، النعماني، ص216.