الشيخ حسن بغدادي
قال تعالى في مُحكم كتابه العزيز: ﴿الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ (إبراهيم: 1). لقد ورث العلماء عن الأنبياء والأئمّة عليهم السلام مهمّة جليلة، وهي هداية الناس؛ ليُكملوا المسيرة على هديهم وطبق إرشاداتهم، لذا فهي مهمّةٌ تهدف -وبحقّ- إلى خدمة الناس. وغالباً ما نظنّ أنّ موضوع "خدمة الناس وقضاء حوائجهم"، ينحصر بموارد: سداد الدّين أو الإقراض... في حين أنّه أشمل وأوسع بكثير. فما الذي قام به العلماء في سبيل خدمة الناس؟ وفي أيّ موارد ساهموا؟
* طلبُ العلم وخدمةُ الناس
"إنّ من الناس مفاتيح للخير"(1)، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا يفيد أنّ الله تعالى فتح على بعض عباده أبواب الخير، حتّى كأنّه ملّكهم مفاتيح الخير ووضعها في أيديهم.
وطُلّابُ العلم هم المصداق الأبرز لهذا الحديث. وإنّ اختيارهم أساساً لطلب العلم، هو من أجل خدمة الإنسان. فقضاء حوائج الناس، تارةً يكون فعلاً مُباشراً، كأن تقضي حاجة أخيك، فتسدّ دينه، أو تُقرضه، أو تساعده في حملِ حاجةٍ وما شاكل.. وتارةً يكون بأن تقوم بمهمةٍ تؤدّي إلى خدمة الناس، سواء ما يتعلّق بأمور دنياهم أو أمور آخرتهم، وهذا يتحقّق من خلال طلب العلم لوجه الله عزَّ وجلَّ؛ بمعنى أن تكون نيّة طالب العلم، هي القيام بمهمّة خدمة المجتمع وإصلاح شأنه، فكلّ ما يقوم به طالبُ العلم في سبيل تحصيله العلميّ، من قبيل الهجرة عن الأوطان، وما يترتّب على ذلك من تحمّل الصعاب والصبر عليها -صعاب الغربة وألم الفراق والفقر وغيرها الكثير-، ذلك كُلّه يصبّ في خدمة الناس. فهو يهدف إلى حمل أمانة الرسالة وتبليغها إلى الناس، ليُميّزوا الحق من الباطل، وليعرفوا الله عزّ وجلّ والطريق الموصل إليه.
* سيرةُ العلماء في خدمة الناس
علماء الإسلام لم يكتفوا بالحصول على العلم والتوغّل في مفاهيمه ومداليله، إنّما عمدوا إلى تطبيقِ الغاية المنشودة من تحصيل العلم؛ سواء ما هو متعلّق بالبُعد الروحي وبتكاليف الناس الشرعيّة، أو ما هو متعلّق بخدمة الناس وقضاء حوائجهم. وهنا أذكر بعض القصص التي حدثت مع بعض هؤلاء الأعلام كنماذج من سيرتهم في خدمة الناس:
1- "الخادم نائم... أنا أذهب معك":
ذاتَ ليلة، طرق أحدُ طلبة العلوم الدينيّة، باب منزل المحقّق الشيخ محمّد حسين الخراساني الآخوند (صاحب كفاية الأصول)؛ لأنّ زوجته على وشك أن تلد، وهو لا يعرف بيت القابلة، ففتح الشيخ الآخوند الباب له، فاعتذر هذا الطالب من المرجع الكبير، وطلب منه أن يرسل خادمه معه؛ ليدلّه على بيت القابلة، وهنا قال له الشيخ الآخوند: "الخادم نائم، ولا أستطيع أن أوقظه؛ لأنّه وقت راحته، وأنا سوف أذهب معك"، فحمل الشيخ الآخوند مصباح الإنارة، وذهب مع هذا الطالب إلى بيت القابلة، واصطحبها إلى منزل الطالب. وفي اليوم الثاني، أرسل الشيخ الآخوند مساعدةً ماليّة إلى هذا الشيخ الطالب، ليستعين على تكاليف ولادة زوجته.
هذا التصرّف من هذا المرجع، وهو في سنّ الشيخوخة، هو من صميم المهمّة التي انتسب إليها في مشروع طلب العلم.
ب- "يستدين لقضاء حوائج الفقراء":
روى ابن السيّد عبد الكريم نور الدين، إمام بلدة (جويّا) من جبل عامل -وكان غايةً في الأخلاق، ومن أصحاب الحظوة عند العالم العارف الشيخ محمّد تقي بهجت-، أنّه بعد رحيله، وجد دفتر ديون عليه، كانت النسبة الأكبر من هذا الدين هي لقضاء حوائج الناس. نحن نفهم أن يصرف الإنسان ما في جيبه على الفقراء، لكن أن يستدين ليصرف على المحتاجين؟! فهذا من الأمور الكاشفة عن شدة إهتمامه بقضاء حوائج الناس.
ج- "إلى يد الفقير مباشرة":
عُرف العلّامة الشيخ محمود عبّاس من قرية (عيثرون) في جبل عامل -الذي كان يسكن في غرفة صغيرة كأيّ عاملٍ قادمٍ من الخارج للعمل في لبنان- أنّه كان يسير على قدميه، من قريةٍ إلى قرية في سبيل خدمة الناس، ووعظهم، وإرشادهم. ذات يوم، مرّ برجلٍ فلّاح يُناديه، فتوقّف الشيخ محمود، فقال الفلّاح: هذا (ثورٌ) زكاة، فأخذه الشيخ محمود منه وذهب. وعندما وصل إلى قريةٍ أخرى وجد فلّاحاً، يحرث الأرض بواسطة بقرة وحمار، فسلّم الفلّاح ذاك الثور ومشى، على الرغم من أنّ الشيخ محمود كان يعيش الفقر ربّما أكثر من هذا الفلّاح، وكان يمكنه أن يذبح الثور ويقسّمه على الفقراء، ويأخذ حصّة له مثلهم، ومع ذلك لم يفعل، حيث رأى أنّ الفلّاح أَولى بهذا الثور، ليقوم بمهمّةٍ إنسانيّةٍ يستفيد منها أهلُ القرية في حراثة أرضهم.
د- "مبادرات نوعيّة":
أثناء الحرب الـعـالميّــة الأولــى، ذاق النـاس الأمرّيــن، ولامسوا حدّ الجوع الحقيقيّ في جبل عامل، فما كان من السيّد شرف الدين، إلّا أن طلب من الميسورين العامليّين أن يُبادروا فوراً إلى إخراج أخماسهم وزكواتهم، وتشكيل لجانٍ في القرى لتوزيع هذه الحقوق على المحتاجين. وقد عالجت هذه المبادرة كثيراً من سوء الأوضاع حينها.
هـ- "وسعهم بأخلاقه":
عندما كنّا نذهب إلى منزل سيّد شهداء المقاومة السيّد عبّاس الموسويّ (رضوان الله عليه) في بعلبك، كنّا نجلس على الأرض؛ لأنّ المجلسَ الذي اقتناه قدّمه لأحد الفقراء، وكان قد كتب على قطعةٍ وضعها خلفه في المجلس عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فسعوهم بأخلاقكم"(2)، فقد كان (رضوان الله عليه) لا يمتلك القدرة الماليّة لتغطية حاجات الفقراء، ولكنّه كان يمتلك القدرة الأخلاقيّة لبلسمة جراحاتهم، فكان الفقيرُ يخرج من عنده وهو مرتاح نفسيّاً، لما شاهد من هذا السيّد الجليل.
وأخيراً، ينضح تاريخ علمائنا بجهودهم الفكريّة كما جهودهم الاجتماعيّة ومحاكاتهم حياة الناس ومعايشتهم همومهم وشجونهم، بل كانوا في بعض الأحيان قدوة وأسوة في التحمّل والصبر، ونبراساً في التغلّب على الصعاب، وما زلنا إلى الآن، نعيش في ضوء جهودهم التي قدّم كثيرٌ منهم دمَه لأجلها؛ لأنّ طريقهم كان لله.
1- الخير والبركة في الكتاب والسنّة، الريشهري، ص77.
2- الأمالي، الصدوق، ص62.