لقاء مع الجريح المجاهد حسين عاصي (مَلَاك)
داليا فنيش
الاسم الثلاثي: حسين عبد الحميد عاصي "مَلَك".
مكان الإصابة وتاريخها: سوريا، 26/03/2013م.
نوع الإصابة: بتر القدمين تحت الركبة مع نزيف في الدماغ.
اقترب "ملاك" من طفلته "زينب"، وراح يحدّق بها. تأمّلها مليّاً حتّى تأجّج في داخله شعور غريب، لم يَنْتَبْهُ من قبل.. إنّه لهيب الشوق إلى أرض كربلاء، لنصرة الإمام الحسين عليه السلام، وأهل بيته وأصحابه. دنا منها أكثر، وهمس في أذنها أذاناً من نوعٍ خاص: "قد تكون هذه المرّة الأولى والأخيرة التي أراكِ فيها يا طفلتي.. إن أنا استشهدت، أوصيكِ بأن تحافظي على خطّ الجهاد عندما تكبرين..". طبع على وجنتيها قبلاتِ وداعه الحانية، ثمّ همّ بمغادرة المستشفى، بعد أن اطمأنّ إلى حالة زوجته الصحيّة، مودِعاً بين يديها أمانته "زينب"، قاصداً قِبلة الجهاد، ساحات المعركة في سوريا. ذلك مشهد من حياة المجاهد حسين عاصي الذي اختبر الجراح وكان عصيّاً عليها. نبقى مع بداية رحلته تلك.
* لحظة الاختبار
"ملك" هو ذاك الذي أُشرب حبّ أهل البيت عليهم السلام، وخاصّة السيّدة زينب عليها السلام، ذلك الحبّ، عبر تربيته الإسلاميّة منذ نعومة أظفاره في ربوع أبويه، تربّى أيضاً في كشّافة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، ولاحقاً خضع للدورات الثقافيّة والعسكريّة.
وكان اندلاع الحرب في سوريا فرصةً ليثبت فيها "ملاك" ولاءه للسيّدة "زينب" عليها السلام وعشقه لها. فلم يقرّ له قرار إلى أنْ استجاب الله دعواته ليكون حارساً لمقامها عليها السلام.
وهكذا، انتقل "ملاك" إلى حيث رغب وأحبّ، وهو بحالة روحيّة ومعنويّة لا مثيل لها. وها قد حان الوقت ليجسّد فعليّاً رسالة الإمام الحسين وأهل بيته عليهم السلام، فكربلاء لا تُحيا بذرف الدموع فقط، وإنّما بنصرة المظلومين، وإعلاء كلمة الحقّ.
* "كلّنا عبّاسك يا زينب"
وصل "ملاك" إلى مقام السيّدة "زينب عليها السلام" في يوم ذكرى استشهادها، فافتتح يومه الجهاديّ هناك ببركة الاستماع إلى مجلس عزاء حسينيّ أقامه المجاهدون.. هؤلاء المجاهدون الذين وجد كلَّ واحدٍ منهم كأبي الفضل العبّاس، حاميَ "زينب" وكفيلها، فعاهد الله على المضي في هذه الحرب حتّى الرمق الأخير.
* يدي فداكِ
في اليوم الثاني، تعرّض مقام السيّدة زينب عليها السلام لهجوم من قِبل التكفيريّين، حيث أصابت شظيّة عضلة يد "ملاك" اليمنى وتلك كانت أولى إصاباته؛ ما استدعى نقله إلى المستشفى لتلقّي العلاج المناسب. لم يبالِ بحال يده، فهي أقلّ ما يمكن أن يقدّمه فداءً للعقيلة زينب عليها السلام، بل راح يتحسّر لأنّه لم ينل شرف الشهادة في سبيل الله!
بعد عشرة أيام، عاد "ملاك" إلى بيته، فخضع لعلاجٍ فيزيائيّ بدأ يتماثل على إثره للشفاء. وبعد ستّة أشهر، شُفيت يده تماماً.
* الجهاد ثمّ الجهاد
بعد مدّة، ارتبط "ملاك" بفتاةٍ مؤمنة، ارتضت أن ترتبط بدورها بطريق ذات الشوكة، وتحمّل طبيعة عمله وغيابه المستمرّ عن البيت، فوافقت على الزواج منه، لتبدأ معه حياةً جديدةً، أصبحت فيها شريكةً في الجهاد.. إلى أن حان موعد قدوم "زينب". لقد تفهّمت زوجته تعلّقه بعمله واندفاعه الشديد له، ولكن ما لم تستطع تفهّمه كيف له أن يغادر ابنته لحظة ولادتها، وهي التي انتظر قدومها بفارغ الصبر! فما إن كحّل عينيه برؤيتها، واطمأنّ إلى صحّتها، حتّى أوصى زوجته بها، بكلماتٍ تُنذر بأنّه لن يعود ويراها مجدداً: "بانتظاري عمل مهمّ.. اهتمّي بحجابها ودينها عندما تكبر!".
* وقعٌ خاصّ
منذ أن عرف "ملاك" بأنّه سيُرزق بطفلة، لم يتردّد ولو لحظة واحدة في اختيار الاسم الذي سيطلقه عليها.. هذا الاسم الذي لطالما كان حاضراً في عقله، وقلبه، ووجدانه. إنّها "زينب"، التي كان لوقع اسمها وحده أثرٌ خاصٌّ في نفسه، كيف لا، وهي المرأة الصبورة التي تحمّلت الأذى، وصبرت على البلاءات والمصائب يوم واقعة الطفّ!
* بشكلٍ نصفيّ!
اتّصل بزوجته بعد يومين من وصوله إلى سوريا للاطمئنان إليها وطفلته، فطلبت منه أن يكون حاضراً معهما في يوم عيد الأضحى، فسوف يكون أوّل عيد لهم كعائلة. أخبرها أنّه سيحاول المجيء دون أن يعدها بذلك، منهياً اتصاله، ممازحاً بكلماتٍ أثارت قلقها وخوفها: "من يدري.. قد أعود إليكما بشكلٍ نصفيّ!".
بدأت التحضيرات لتنفيذ هجومٍ ضد التكفيريّين، و"ملاك" يملؤه حماس وشوق كبيران لملاقاتهم من جديد، وهو يردّد أمام رفاقه: "أتمنّى أن أُصاب بالجراح أو أن أستشهد في هذه المعركة لكي أحصل على كرامة الإمام الحسين عليه السلام"، فردّ عليه زملاؤه ممازحين: "لا تستعجل على رزقك!".
كانت المواجهات مباشرة وشرسة، تتنقل من بيتٍ لآخر، وكان المقاومون يسمعون شتائم التكفيريّين التي كانت تُطلق نحوهم من وقتٍ لآخر، ولكنّهم كانوا يقابلونهم بشعارات: "لبّيكِ يا زينب.. لبّيكَ يا حسين..". في هذا الوقت، وصل "ملاك" وبعض المجاهدين إلى أحد المنازل، وإذ بعبوةٍ تنفجر فجأة، فتصيبه إصابةً مباشرة، تطايرت معها الدماء من رأسه ومختلف أنحاء جسده!
نُقل إلى المستشفى، فمكث هناك عشرة أيّام فاقداً للوعي. وعندما استيقظ، حاول تحريك رجليه، فلم يتمكّن. ثمّ وضع يديه عليهما ليتحسّسهما، فلم يشعر بهما كذلك! وما هي إلّا لحظات حتّى تذكّر ما قاله لزوجته قبل أيّام: "من يدري.. قد أعود إليكما بشكلٍ نصفيّ!".
* عبر الشرفة
رضخ "ملاك" لمشيئة الله في أن اختاره جريحاً، خاصّةً وأنّه هو الذي كان قد أسرّ عن رغبته في أن يواسي جراح الإمام الحسين وأبي الفضل العباس عليهما السلام، فنال ما تمنّى! وبينما كان لا يزال يتلقّى العلاج، أصيب بجرثومة أقعدته ثلاثة أشهر إضافيّة داخل المستشفى، الأمر الذي منعه من رؤية طفلته "زينب"!
كان وقع الخبر صعباً للغاية، فبدلاً من أن يحملها بين ذراعيه ليخبرها أنّه "بابا"، ويلاعبها، ويحضنها، ها هو يشاهد صورها وأفلامها عبر الهاتف! فبقي على هذه الحال إلى أن خطر له يوماً أن يراها من على شرفة المستشفى.
خمسة طوابق فصلت بين "ملاك" و"زينب"! ولكنه على الرغم من ذلك بدا مسروراً، إذ رآها أجمل وأكبر ممّا بدت له في الصور. حاول جاهداً أن يتمالك نفسه، وأن يبقى قويّاً أمام ذلك الموقف، ولكن العَبرة خنقته، ودموعه غدرته.. إنّ ابنته موجودة في حديقة المستشفى، وهو لا يستطيع الاقتراب منها!
* عرس العودة
انقضت مدّة العلاج، وعاد "ملك" إلى بلدته، فاستُقبل استقبال العريس، بالورود والأرز، والزغاريد والحلوى.. لقد عانق ابنته عناقاً حارّاً.. عناقاً انتظره طويلاً، ولم يشأ أن ينتهي أبداً!
أحاط الناس به من كلّ جانب، فشعر بمسؤوليّةٍ إضافيّة لمواصلة هذا الدرب! وبدأ يلقي على مسامعهم كلمةً كان قد حضّرها مسبّقاً: "يا أشرف الناس.. سوف أبقى صابراً حتّى يختم الله حياتي بشهادةٍ مباركةٍ دفاعاً عن سيّدتي زينب عليها السلام.. أجدّد العهد مع الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام، وأقول له كما قال أصحابه في ليلة العاشر من محرّم: أنبقى بعدك؟! لا طيّب الله العيش بعدك يا حسين".
* رغم الجِراح
خضع "ملاك" للمزيد من العلاجات إلى أن استقرّ وضعه؛ فانطلق بعد ذلك إلى ساحة جهاد من نوعٍ آخر، ليس بالسلاح العسكريّ هذه المرّة، وإنّما بسلاح الموقف والكلمة، استجابةً لنداء السيّد حسن الذي قال ذات مرة: "حيث يجب أن نكون سنكون"، فلم يمنعه الكرسيّ المتحرّك من التواجد في المناسبات المختلفة، التي كان يُدعى إليها من قِبل التعبئة التربويّة وكشّافة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، ملقياً الخطابات، والكلمات، والمواقف.
وفي أحد أيّام ذكرى انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران، دُعي "ملك" لزيارة الجمهوريّة الإسلاميّة، وقد حظي هناك باستقبالٍ من نوعٍ خاصّ، فألقى كلمةً في الحاضرين في مجمع الإمام الصادق عليه السلام في قم.
لقد استمدّ "ملاك" بجراحه قوةً وعزيمةً لم يشعر بهما من قبل.. فبالجراح عرف معنى الصبر، والمثابرة على العمل، والمضي قُدماً، وعدم الاستسلام، والتحدّي.. ولولا هذه الجِراح والتضحيات العِظام التي شهدتها مسيرتنا عبر مرّ التاريخ، لما انتصرت ثورة الإمام الحسين عليه السلام، ولما ظلّت مفاهيمها خالدة إلى هذا الوقت، بل وستبقى كذلك إلى أبد الدهر!
* تخليداً للذكرى
رُزق "ملاك" بطفلةٍ ثانية، فلم يواجه مرّةً أخرى أيّ صعوبة في اختيار الاسم.. إنّه موجود فيه ومعه، وحاضر في كلّ كيانه ووجدانه، يوثّق تضحياته، ويخلّد ذكرى شجاعته وبطولته.. فحملت ابنته الثانية اسمه الجهاديّ؛ "ملاك"!