اخرج إلى الضوء | عندما يكون القائد والداً للمجاهدين مهارات | المساندة النفـسيّة في الأزمات والحروب الملف | كيف نواجه إشاعات الحرب؟ الملف | بصبركنّ... ننتصر الملف | دعاء أهل الثغور: مدد المجاهدين الملف | الشهداء المستبشرون معالم المجتمع الصالح في نهج البلاغة الملف | قيم المقاومة آخر الكلام | تحت الركام.. الافتتاحية | الصبر حليف النصر

قصة: لأجلها... نجاهد

ولاء إبراهيم حمود

 



فتح "بدر" عينيه، فركهما جيداً، احتاج هنيهات، كي يستوعب ما يرى. أيقظت الفجوة المفتوحة فوق، الزاوية حواسّه، حرَّك يديه، تحسَّس بهما رأسه، جبينه، جسده، ساقيه، وابتسم لنفسه مهنئاً: "الحمدُ لله كل شيء على ما يرام؛ لا جراح، لا دماء، إذاً، لم أستشهد، لا بأس، ثمة فرصٌ قادمة إن شاء الله. أين "كميل"؟ أما كان معي منذ قليل"؟ ودفعه ذكرُ "كميل" إلى النهوض. لاحظ الصمت الرهيب الذي غرق فيه المكان بعد هدوء أصوات القذائف، فوقف نافضاً الغبار عن ملابسه.

فاجأته بقعة الضوء التي انتشلت المكان من عتمته. أنينٌ متوجعٌ قاده نحو الجدار. كان كميل يتمدد قربه بعيداً عن الفجوة أمتاراً قليلة. بدا شاحباً، في غيبوبةٍ. تأوّه بدر بصوتٍ خفيض، حذر، وهزّه: كميل، هل أنت بخير؟ أتسمعني؟ لم يسمع منه جواباً، فانحنى عليه، يبحث عن موضع إصابته، فوجدها في ساقه وكتفه. كانت بقعتا الدماء تحت موضع الإصابتين، متسعتين؛ أخافتا "بدراً"، فلم يستطع تمالك دمعه. كانا صديقين، بل أكثر، معاً في المدرسة ورحلاتها، والسهرات وشبابها. وهما الآن معاً في ظرف جهادي واحد. "يا الله اتجه بدر إليه سبحانه اللهم احمِ كميلاً، نجّه يا رب، أرجوك، أتوسل إليك بحق محمد وآل محمد. كميل أتسمعني؟ افتح عينيك، لا تستسلم للنوم هنا، هيَّا كلِّمني". أدرك بدر خطأه بدخول الموقع، ناسياً حقيبة الإسعافات الأولية، فنزع عن عنقه "سُلكه" الأثير لديه، دون تردد، ستأتيه أمه بسواه بعد حين، كُميل هو الأغلى، وهي نفسها لن تغفر له حرصه عليه، إزاء جراح أحد أعز أصدقائه أو أي أحد آخر من إخوة الجهاد.

 وراح بدر يربط بإحدى مزقه ساق كميل مبتعداً عن جرحه مباشرة، كي يوقف النزف المتواصل، ثم راح يضغط على البعد نفسه عن جرح كتفه، وتابع حديثه معه: "كميل" أرجوك افتح عينيك، نحن وحيدان، لا تنم. وعندما لاحظ بدر توقف نزف الجرحين، خفّ توتره، وهدأ أكثر حين فتح كميل عينيه، وبصوتٍ ضعيفٍ واهٍ خاطبه: بدر أخرج أنت. انجُ بنفسك، واقضِ عني صلوات هذا النهار، أرجوك لا تنسها. وتذكَّر بدر أن القصف استهدفهما قبل وقت الصلاة وتذكر أيضاً صلواتهما معاً في المسجد، وحرص كميل على أدائها في موعدها أكثر من سواه، فكتم خوفه المتزايد على صديقه بلهجةٍ قويةٍ حاسمة: كميل، أرجوك، أنت أعلم بالمكان مني، وسنقضي الصلاة معاً بإذن الله. ساعدني قبل أن يبدأ القصف ثانية ونستشهد حقاً، هيا حاول أن تلهج بأي دعاء لأنني لن أتركك وحيداً أبداً، معاً ننجو أو نستشهد معاً. معك حق ألا يوجد هنا ولو ورقة صغيرة، نكتب عليها وصيتنا بقضاء الصلوات؟ ماذا لو استشهدنا معاً، من سيعلم بها؟ من سيخبر أمي أو أمك؟ من..؟ لم يسمع بدر ما تبقى، لأنه راح يبحث في جيوبه عن قصاصة ورقٍ وقلم، فلم يجد، ثم في زوايا المكان، فلم يعثر على شيء، لكن هيكل هاتفٍ خلوي قديم مرمي فوق الركام أعاده إلى كميل قائلاً: "لم أجد شيئاً...

 ليته كان مسموحاً لنا حمل الخلوي، كنا سجلنا عليه ما نريد. بصمتٍ، مدّ كميل يده إلى جيبه واستخرج منه هاتفه المنسي فيه لأنه مقفلٌ وناوله لبدر بعد أن انهارت قواه، فصرخ هذا الأخير وهو يتسلمه غارقاً بالدماء: يا إلهي إنها إصابة ثالثة". وصمت مدركاً أنه لا يملك حيالها شيئاً؛ لأن هاتفه الغارق بدمائه قد ثقبته الإصابة ذاتها ولم يعد صالحاً لأي تواصل. ووقف بدر حائراً، أحسّ، لأول مرةٍ، أنه عاجز عن الاحتفاظ بصديقه أو إسعافه، فجلس قرب رأسه يمسكه بين يديه يحادثه، وسمعه يكرّر بضعف: لا تنسَ اقضِ عني الصلاة.. فور خروجك.

 فجأة نهض بدر وضمد ببعض المزق الجرح الثالث وجمع ما بقي من السُلك، وسادة وضعها تحت رأس كميل، وكي يريحه غمس حجراً مسنناً في بقعة الدماء وراح يكتب على الجدار المقابل العبارة التالية: "نرجو قضاء صلاة الظهرين عن روح الشهيدين بدر وكميل" ثم تيمّم بغبار الركام ووقف للصلاة متجهاً إلى الله وحده وراح يؤدي في كل اتجاه ركعتين خاشعتين، لم يؤدِّ مثلهما يوماً طالباً من الله في قنوتهما مدداً، يسعف رفيق طفولته، وشقيق صباه وجهاده، معاهداً إياه سبحانه على عدم إهمال الصلاة ولو للحظة بعد اليوم. وبعد إنهائه ركعتي الزاوية الرابعة جلس قرب رأس كميل الغارق في صمته ودمائه.

 ومرت الثواني ثقيلةً بطيئة، خالها بدرُ دهراً، ولم يصدق كيف انتهت بنداءٍ جاءه من أعلى الفجوة، كان الصوت يناديه باحثاً عنه، ناداه فاشتدت عزيمته وهبَّ واقفاً معلناً وجوده مع كميل وسار دون تردد حسب تعليمات الصوت حاملاً سلاحيهما بيد وباليد الأخرى حمل على كتفه كميلاً ومضى في نفقٍ خرج منه إلى حيث كانت الشمس تميل نحو غروبها، تاركةً بعضاً من أشعتها تنير وجوهاً يقظة عليها غبرة جهادٍ كبير، وسيارة إسعاف. وأيقظ المسعفون "كميلاً" بالأمصال التي أعادت إليه وعيه وبعضاً من قواه ففتح عينيه متبادلاً مع صديقه نظرات الشكر والعرفان لله. وشدّ بدر على يد "كميل" الخالية من أنبوب المصل قائلاً: "هذا الكيس سيفرغ وسنتوضأ بالماء بدل الدم. وستصلي قضاءً عن نفسك بإذن الله، سنقضيها معاً يا بدر فنحن ما جاهدنا إلا لأجلها وما نجونا إلا في ظلها. لقد رأيتك وأنت تكتب وصيتنا بدمائي، وشعرت بخشوعك وأنت تصلي بالاتجاهات الأربعة. وابتسما بسعادةٍ متفهماً أحدهما الآخر. أغمض كميل هذه المرة عينيه مستريحاً، أما بدر الذي رمى خوفه عليه جانباً، فقد تناول قرآناً كان فوق أحد رفوف سيارة الإسعاف، وراح يتلو آيات بيّنات من كتاب الله الكريم الذي اعتمده دائماً دستوراً للحياة قبل أن يقرر اليوم اعتماد الصلاة هدفاً للجهاد.

(*) هذه قصة واقعية رواها لي الاثنان معاً بدر وكميل وقد حدثت في إحدى المواجهات البطولية التي خاضاها معاً.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع