الشهادة مفهومٌ عجيب، ومقولةٌ عجيبةٌ وعميقة. الشهادة
تعني التجارة مع الله تعالى، تجارةٌ ذات طرفين لا قلق ولا خوف فيها. البضاعة هي
النفس، وهي رأس المال الأساس لكلّ إنسان، وفي مقابل السعادة الأبديّة والحياة
الخالدة في أفضل النعم الإلهيّة. هذه البضاعة التي تقدّمونها أنتم بالشهادة، ليست
بضاعةً أبديّة، إنّها من قبيل ذلك الثلج الذي يُعرض للبيع في الصيف، فإن لم تشتروه
فإنّ أساس المادّة والبضاعة سيتلاشى ويذهب. هذا الذي يشتري منك هذه البضاعة الفانية
والزائلة هو مشترٍ عظيم جدّاً.
* وعد الله: "سأشتري بضاعتكم مقابل الجنّة"
هذه الحياة التي نملكها أنا وأنتم هي الثلج بعينه، إنّها تزول وتتلاشى ذرّة ذرّة؛
أي إنّنا نقترب من القبر أكثر فأكثر. في النهاية، سينقضي هذا الأجل، وقد وُجد لهذه
البضاعة التي ستفنى، سواء بعتها أم لم تبعها، مشترٍ يقول لك أنا أشتريها منك،
وبأغلى وأعلى ثمن، ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ
فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾ (التوبة: 111). ولا
يعني هذا أن تسلّموا أنفسكم للعدوّ حين تجاهدون في سبيل الله وتقولوا له: اقتلنا،
بل عليكم أيضاً أن توجّهوا له ضربة. هذا الحارس الذي استُشهد على حدود البلد، قد
وجّه قبل ذلك ضربات كثيرة للعدوّ، وقد عمل على منع نفوذ العدوّ، ووقف في وجه
مؤامراته، وفي وجه فساده. وهذا الشابّ الذي وقف مقابل داعش واستُشهد دفاعاً عن
المراقد، قد وجّه قبل أن يستشهد مئات الضربات إليهم، وأفشل أهدافهم ومخطّطاتهم،
وفرّقهم؛ فيَقتلون، ويُقتَلون. هذا الوعد ليس مختصّاً بدينكم؛ بل جاء في الكتب
السماويّة السابقة أيضاً: ﴿وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي
التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ﴾. هذه هي الشهادة. ثمّ يقول
تعالى: ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ﴾.
وعليه، فالشهادة مفهوم من هذا القبيل. حينما تنظرون إليها في الظاهر تجدونها مؤلمة،
مُرّة، تفجع أفراد العائلة، وتجرّعهم الغصص. هذا هو ظاهرها؛ أمّا باطنها فهو الموت
التجاريّ؛ أي الموت الذي يوجد فيه ذكاء.
* عوائل الشهداء رابحون
أنتم عوائل الشهداء، حتماً تعانون، تفقدون أبناءكم، إخوانكم، آباءكم، أزواجكم، أنتم
تحبّونهم، فمن الطبيعي أن تُفجعوا بهم -لا شكّ في ذلك- لكن عندما تنظرون إلى
المسألة من هذا المنظار، سترون أنّكم أيضاً رابحون. لماذا؟ لأنّه حين يعرج الشهيد
ويرتقي إلى الدرجات العلا، سيصبح بإمكانه الشفاعة، وسيتمكّن من لعب دور في البرزخ
والقيامة، وحين ترحلون عن هذا العالم، ستكون بانتظاركم شدائد كثيرة؛ فإن استطاع
المرء أن يجد له شفيعاً هناك ينفعه، فلهو أمر غاية في الأهمّيّة. وهؤلاء الشهداء هم
شفعاؤكم.
إنّ قضيّة عوائل الشهداء لا تقتصر على استشهاد فردٍ منهم في سبيل الحقّ. إنّ صبرهم
بنفسه هو جبل كبير، ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن
رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾ (البقرة: 157). أنتم عوائل الشهداء حين تصبرون
على مصيبة فَقد أولادكم وتشكرون الله تعالى، وتتحمّلونها، وتحتسبونها عنده سبحانه،
فإنّها ستوجب تنزّل الصلوات عليكم من الله تعالى مالك عالم الوجود. هذه قيمة.
وعلينا أن نعي هذه المفاهيم جيّداً.
* هذه المفاهيم حفظت الثورة..
يريد الأعداء أن يسلبونا هذه المفاهيم. بعض هذه الأقلام المأجورة -التي ترغب في
استمالة قلوب الأجانب بدلاً من استمالة قلوب أولياء الله- تكتب أشياء، وتعرض
لمواضيع في بعض الصحف، والمجلّات، أو الفضاء الافتراضي. هؤلاء لا يدركون ماذا
يفعلون. إنّ مفهوم الشهادة، ومفهوم الجهاد في سبيل الله، ومفهوم الصبر عليه، هي
مفاهيم عظيمة؛ ولها أثرها في الحياة اليوميّة للمجتمع الإسلامي. هذه المفاهيم هي
التي حفظت الثورة.
* من يسعى لإهانة عوائل الشهداء خائنٌ للبلد
بما أنّكم عوائل شهداء، وأنتم مفجوعون وقد خضتم هذه التجربة، أريد أن أقول هذا
الشيء -وليُنشر هذا الكلام وليُردّد حتّى يعلم الناس كم من الخدمات يقدّمها هؤلاء
للبلد- وهو أنّ الخدمة لا تنحصر بتأمين الماء والخبز، فالأهمّ من الخبز والماء هو
الأمن، وهؤلاء يوفّرون الأمن للبلاد.
إنّ كلّ من يسعى لإيداع ذكرى الشهداء في مدارج النسيان هو خائن لهذا البلد، وكلّ من
يسعى لإهانة عوائل الشهداء، ولإهمالهم، أو للتهجّم بالقول عليهم، يكون خائناً لهذا
البلد. ينبغي احترام الشهداء ومعرفة قدرهم، وينبغي احترام عوائل الشهداء، وليكونوا
ممتنّين للشهداء. حسناً، ماذا يعني أن يكون [المرء] ممتنّاً للشهداء؟ يعني أن يكون
ممتنّاً لتلك الزوجة التي رضيت بأن يذهب زوجها للقتال ويُستشهد، وأن يكون أيضاً
ممتناً لذلك الأب وتلك الأمّ اللذَين رضيا بذهاب ولدهما. وليعلم الجميع أنّ هؤلاء
هم من حفظوا القيم حيّة في بلدنا.
(*) من كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء عوائل شهداء المناطق الحدوديّة والمدافعين عن المراقد المشرّفة، الموافق 18/6/2017م.