إنّ الحديث عن الشهادة والشهداء لهو أمرٌ شائكٌ ومضنٍ.
ولا يستطيع الواحد منّا تفسير هذا الأمر العظيم على حقيقته الكاملة، لا سيّما أنّنا
لم نرتقِ بأرواحنا بعد إلى معنى الشهادة. لذلك نلجأ دائماً إلى سيرة شهدائنا البررة
لنستقي منها معنى الشهادة في سبيل الله من خلال سيرتهم الذاتية أو من خلال كلماتهم
النورانية التي تجسد لنا عظيم ما وصلوا إليه من المرتبة الرفيعة التي خصّهم الله
بها.
* قمة العطاء
إن نظرة سماحة السيد الشهيد عباس الموسوي "رضوان الله عليه" إلى الشهادة التي عاش
طويلاً من أجلها مجاهداً محتسباً نقرأها وتطالعنا دائماً في فكره وكلماته التي يصف
فيها حال الشهداء في حياتهم، وكيف وصلوا إلى مرحلة إنكار الذات من أجل القضايا
العادلة والمحقة التي آمنوا بها وجاهدوا من أجلها وأعرضوا عن هذه الدنيا بكل
مباهجها فأعاروا بذلك جماجمهم وأرواحهم لله سبحانه وتعالى ولسان حالهم يردد كلام
الإمام الحسين عليه السلام:
تركت الخلق طرّاً في هواك |
وأيتمت العيال لكي أراك |
فلو قطعتني في الحب إرباً |
لما مال الفؤاد إلى سواك |
فالشهيد الذي تسامى في علاقته بمعبوده ومعشوقه قد وصل إلى قمة العطاء، كما عبَّر عن
ذلك السيد الشهيد بقوله: " إن الميزة الأساسية التي يتميز بها الشهيد هي أنه تعالى
وتسامى في عطائه حتى وصل إلى قمة العطاء، بذل في حياته المال والجهد والوقت، لم
يترك لحظة من لحظات حياته إلا وبذلها في سبيل الله، بقي يقدِّم ويقدِّم ويبذل على
طريق الله حتى وصل إلى قمة العطاء. فأعطى أغلى ما يملك، أعطى روحه وجسده في سبيل
الله، هذه ميزة الشهداء، ميزة التسامي في العطاء، ميزة التعالي على كل شيء، يتعالى
على ذاته وأنانيته، يتعالى على كل الأشياء من حوله، لا يفكر بالولد ولا بالزوجة ولا
بالأهل والأقارب، لا يفكر ببيته، لا يفكر بكل القيم المادية من حوله، فقط لا يرى
إلا علاقته مع الله ولا يرى إلا اللقاء الأساسي وهو لقاؤه مع الله عزّ وجلّ، فهذا
هو معنى الشهادة، وهذا ما يتميز به الشهداء".
* رضا الله غاية المنى
من هنا كانت حياة السيد عباس مصداقاً لهذا القول، حياةً مفعمة بالجهاد، بالتضحية
والإيثار، حياة من اعتبر هذه الدنيا جسر عبورٍ إلى دار الخلود السرمدي حيث لا عينٌ
رأت، ولا أذُنٌ سمعت، ولا خَطَر على قلب بشر. فكان لا يرضى من عمله القليل، ولا
يستكثر الكثير، لا يعرف الكلل والملل، ولا التعب والعناء، بل كان جلُّ همه رضا الله
سبحانه وتعالى الذي كان غاية المنى. لقد أدرك سيد شهداء المقاومة أن العطاء من أسمى
الصفات التي تُميز المؤمن التقي عمن سواه، وكان على علمٍ بأن الطريق التي اختار
سلوكها هي طريق محفوفة بالصعاب، فاحتضن المقاومة حيث قلَّ الناصر، وسهر لأجل
حمايتها حين نامت عيون اللامبالين بما يدور في العالم حولهم من ظلمٍ واضطهادٍ
وغطرسة. منحها جلَّ وقته ليكحل عينيه بانتصاراتها المتتالية، في زمنٍ أنكر فيه
الكثيرون قدرة العين على مقاومة المخرز، مستمدّاً عزيمته من جده الحسين
عليه السلام، قبلة الأحرار وكعبة الثوار، فكانت كربلاء
مدرسةً نَهَل من نبعها صبره وقوّة إرادته وإصراره على مواصلة المسيرة، وإن تطلّب
ذلك بذل المزيد من التضحيات وتقديم المزيد من الشهداء، فكان من أصدق روّاد المدرسة
الكربلائية وأشدّهم إخلاصاً، وأكثرهم جلَداً وإصراراً على العطاء حتَّى بلوغ القمة.
* في سبيل إعلاء كلمة الإسلام
لقد نذر حفيد الحسين عليه السلام حياته لخدمة المستضعفين ونصرة قضاياهم، وكرّس وقته
لترك البصمة الأقوى والأبرز في تاريخ النضال والجهاد والمقاومة، فكان على يقينٍ من
أنَّ الانتصارات الحقيقية لا يمكن أن تتحقق إلا إذا استشهد العالم كما الشاب في
ساحة الجهاد، بل وإنَّ إعلاء كلمة الإسلام لا يمكن أن تتمّ إلا ببذل دماء القادة
الأبرار.. ولذلك، فإنَّ السيد الشهيد لم يبخل بنفسه جعلَ
الشهادة الغاية المنشودة، وكان يطلب من المجاهدين الدعاء له لأجل نيلها، وكان يعرف
حقّ المعرفة أنّ دمه الزاكي سيكون الشعلة التي يحملها مجاهدو المقاومة ليحرقوا بها
أعداء الدين. السيد عباس قرن القول بالفعل، فكان نعمَ
القائد المواسي للمجاهدين بطريقة عيشه وبشهادته المباركة. فسلام
عليه يوم ولد، ويوم استشهد، ويوم يبعث حيّاً...