سماحة السيد حسن نصر الله
يوم الشهيد أعلن في الحادي عشر من تشرين الثاني 1982
انطلاقاً من حادثة عظيمة ورائعة، فكانت المناسبة يوماً لكل الشهداء. في 11/11/1982
اقتحم شاب من عائلة جنوبية بسيارته المليئة بالمتفجرات مقر الحاكم العسكري
الإسرائيلي في مدينة صور ودمره بالكامل. كان ذاك الاستشهادي الشهيد أحمد قصير،
وكانت تلك العملية عملية نوعية، فريدة ومؤسسة في آن واحد، وأسبابُ ذلك كثير أبرزها:
* الشعب قاتل بزهرة شبابه
أولاً: العملية جاءت بعد مضي أربعة أشهر على بدء الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام
82، وكانت تعبيراً عن إرادة الشعب اللبناني المقاوم الرافض للاحتلال والهيمنة
الإسرائيلية، وجاءت في الوقت الذي كان فيه شعور كبير من اليأس والإحباط يسود
اللبنانيين، وفي ظل احتلال إسرائيلي واسع امتدَّ حتَّى العاصمة وجبل لبنان وصولاً
إلى البقاع الغربي، وفي ظلِّ قوات متعدِّدة الجنسيات جاءت لحماية الاحتلال، وفي ظلِّ
نظام سياسي متعاون وقوى سياسية لبنانية متعاملة. قيل في ذلك الوقت إنَّ لبنان دخل
في العهد الإسرائيلي ولن يخرج منه. بعد أيَّام قليلة بدأت المقاومة. وهي لم تتوقَّف
في شوارع بيروت، في الضاحية، في خلدة، في الجبل، في الجنوب، في البقاع، في كلِّ أرض
داسها جنود الاحتلال وطهَّرها المقاومون بدمائهم وبعرق العطاء والسهر والتعب. هذه
العملية جاءت كعنوان وإنذار مبكر أنَّ شعب لبنان لن يقبل بالواقع الذي أراد العالم
كله الذي وقف خلف الاحتلال والاجتياح عام 82 له أن يسلم به، ولن يرضخ له وسيقاتله
بزهرة شبابه، وكان أحمد قصير عنوان زهرة الشباب.
* أوّل عمليّة استشهاديّة
ثانياً: هذه العمليّة هي أوّل عمليَّة استشهاديّة بهذا الشكل في تاريخ الصراع
العربي-الإسرائيلي والقتال مع العدو، ولذلك قيل بحق إنَّ أحمد قصير هو فاتح عصر
الاستشهاديين. وإنَّ أحمد قصير بحق هو أمير الاستشهاديين لأنَّ الأمير هو من
يتقدَّم القافلة وليس من يتخلف عنها. أحمد قصير تقدم الجميع إلى ساحة العمل
الاستشهادي فكان الأوّل ولحقه أعزاء وكبار وعظام، ولكن يبقى الأول هو الفاتح،
والأمير، وتابع بعده استشهاديون كثر من حزب الله ومن مختلف أطر المقاومة، من رجال
لبنان ونساء لبنان، قدَّموا النماذج الرائعة في مواجهة العدو وفي العطاء والتضحية
بلا حدود.
ثالثاً: كانت هذه العملية أوَّل عملية يسقط فيها العدد الكبير من ضباط وجنود العدو
وفي ضربة واحدة. عندما اقتحم أحمد مقرَّ الحاكم العسكري الإسرائيلي ودمره بالكامل
اعترف العدو نفسه بمقتل ما يزيد على مائة ضابط وجندي إسرائيلي في دقيقة واحدة.
وأعلن بيغن الحداد ثلاثة أيام في الكيان الغاصب، وجاء شارون ووقف على أطلال ضباطه
وجنوده يذرف الدمع ووجهه مستاء تعلوه الخيبة، وما زالت هذه العمليَّة هي الأولى في
تاريخ العرب وفي تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي التي تحقِّق إنجازاً عسكرياً بهذا
المستوى وتقتل عدداً كبيراً من جنود وضباط العدو، ما زالت هي الأولى والأكبر
والأضخم.
رابعاً: في ذلك الحين لم تعلن المقاومة اسم الاستشهادي حرصاً على عائلته التي كانت
ما زالت تعيش في الجنوب وتحت الاحتلال وبقيت إلى حين خروج الاحتلال مهزوماً مدحوراً
من منطقة صور حيث تمَّ الإعلان عن اسمه. وهنا تميَّزت المقاومة منذ بداية العمل
بسريتَّها التامّة، وهنا يكمن شيء أو بعض من قوّتها وأيضاً بحرصها الشديد على عوائل
الشهداء وعلى شعبها وعلى أهلها من أن ينالهم سوء.
* الهدف مواجهة الاحتلال
خامساً: إنَّ المقاومة الإسلامية في ذلك الحين لم تعلن عن مسؤوليتها عن هذه العملية
الاستشهادية، مع أنَّها أضخم عمليّة نوعيَّة نفِّذت في تاريخ المقاومة، في الحد
الأدنى في لبنان، ضدَّ قوات الاحتلال، ومع أنَّها مفخرة حقيقية ومع أنَّها وسيلة
دعائية في هذا الإطار من أطر المقاومة، ولكن المقاومة الإسلاميَّة احتفظت بالعمليّة
وشهيدها واسم شهيدها سراً من أجل أن تحافظ على وجودها وسرية تشكيلاتها لأنَّ الأصل
هو أنْ تستمر المقاومة، وفي ذلك الحين حفظ هذه التشكيلات كان ضمانة استمرار
المقاومة. منذ البداية كان الهدف مواجهة الاحتلال وطرد الاحتلال ولم يكن الهدف ولا
للحظة الدخول في منافسة إعلامية، ولو شريفة، مع بقية أطر المقاومة.
سادساً: كانت هذه العملية النوعية والصدمة الهائلة التي أحدثتها، إيذاناً مبكراً
بهزيمة الصهاينة في لبنان. الهزيمة بدأت في 11/11/1982 وعبرت عن نفسها سريعاً في
العام 84 والعام 85 نمت المقاومة واستمرت فكان الانتصار في العام 2000 والانسحاب
الإسرائيلي الكبير. هذا الزمان هو الظرف الزماني الّذي استوعب عملية نوعيَّة راقية
وسبَّاقة ويمكن أن تمثِّل أسوة وقدوة في الجهاد والمقاومة، ولكن أيضاً 11/11/82 هو
ظرف زماني لرحيل عاشق إلى الله، فلم يكن أحمد قصير مجرَّد مقاتل مقاوم يستخدم
السلاح أو يفجِّر سيارته وجسده ليهزم عدوه، وإنَّما كان ككل الشهداء يختصر ويلخِّص
مجموعة كبيرة من القِيَم والمفاهيم والأخلاق والمعنويات والرؤى، وكان في ذلك أولاً
وأخيراً عاشقاً لله. في 11/11 كانت العبادة الأرقى والأعلى، وكان العطاء الأعلى
والأرقى من خلال الاستشهاد، ولذلك اختار حزب الله يوم الحادي عشر من تشرين الثاني
ليكون يوماً لكل شهدائه و«يوماً للشهيد»، نحيي فيه ذكراهم أجمعين من السيد عباس سيد
شهداء المقاومة الإسلامية والأستاذ والقائد والمعلم ورفيق الدرب وحبيب الشهداء، إلى
شيخ الشهداء راغب حرب الزاهد والعابد والمجاهد والمقاوم والأسوة الحسنة والقدوة،
إلى العلماء الشهداء، إلى الاستشهاديين الشهداء، إلى المقاومين الشهداء، إلى
المدنيين الشهداء وإلى كلِّ الشهداء، نحيي فيه ذكراهم في يوم واحد، وننحني فيه أمام
كلِّ الشهداء من أطر المقاومة اللبنانية الأخرى وأمام شهداء الجيش اللبناني وأمام
كل شهيد قضى في لبنان دفاعاً عن هذا البلد وعن هذه الأرض والشعب، كما ننحني فيه
أمام أرواح شهداء المقاومة في فلسطين والمقاومة في العراق والمقاومة على امتداد
عالمنا العربي والإسلامي، وأمام أرواح كلِّ أولئك الأباة الّذين يرفضون الخضوع
للاحتلال ويرفضون الذَّل والهوان ويبحثون عن حياة الكرامة والعزَّة.
(*) مقتطف من كلمة ألقاها سماحة السيد حسن نصر الله في ذكرى يوم الشهيد بتاريخ 11/ 11/ 2007.