مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

تاريخ : ثورة النفس الزكيَّة

محمَّد بن عبد الله بن الحسن المثنَّى بن عليّ بن أبي طالب عليهما السلام

إبراهيم منصور


قامتِ الدولة العباسيَّة عام (132هـ- 749م) تحت شعار "الرِّضا من آل البيت". وكان للطَّالبيين فيها فضل كبير؛ إذ هم موالون لأهل البيت عليهم السلام، وأنصارهم وحواريُّوهم. ولكنَّ العبَّاسيين كانوا يُضمرون الخديعة والمكر. وكانوا يعتبرون أنفسَهم أهل البيت؛ إذ إنَّهم أحفاد العبَّاس عمِّ النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله. فما إن تمَّ لهم النصر على الأمويين بعد معركة "الزاب" عام (748م) حتَّى تنكّروا لأبناء عمومتهم الطالبيين، ونكّلوا بهم وبأنصارهم شرَّ تنكيل، حتَّى إنَّ أحد الشعراء قال في ذلك:
 

وليْتَ عَدْلَ بني العبَّاسِ في النارِ!(1)

فليت ظُلْمَ بني مروانَ دامَ لنا


* بداية المكاشفة العدائية
واشتدَّت الصراعات السياسيَّة والمذهبية بين العباسيين، من جهة، وبين كلٍّ من الطَّالبيين والخوارج والفرس، من جهة ثانية. بدأ هذا الصراع في عهد الخليفة العبَّاسي الثاني أبي جعفر المنصور. ولعلَّ أبرز الحوادث المباشرة لهذا الصراع كان عندما حَجَّ هذا الخليفة سنة (140هـ-757م) فقسَّمَ أموالاً عظيمة في الناس لاستمالتهم إليه، على طريقة معاوية الأثيرة. ويومَ الحجّ المشار إليه، لم يحضر محمَّد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، الملقَّب بالنفس الزكيَّة، كما لم يظهر أخوه إبراهيم بن عبد الله. فسأل الخليفة أباهما عنهما فأنكر معرفته بمكان وجودهما، فتغالظ أبو جعفر المنصور وعبدُ الله حفيد الإمام الحسن عليه السلام في القول(2). تلك الحادثة جعلت الخليفة العبَّاسي يتوجَّس خيفةً من آمر آل أبي طالب، وما يُضمرون ويُخَطِّطون له. كما كانت أيضاً بداية المكاشفة العدائية، وفاتحة سجلٍّ من الصراعات السياسيَّة، وأحياناً المذهبية، بين بني العمّ، لم ينطوِ إلا مع انطواء الدولة العباسية على يد التتار عام (1258م). منذ تلك الحادثة، بدأ المنصور بالتربُّص بأيِّ تحرّك طالبيّ، والتخطيط للقضاء على أيَّة ثورة شيعيَّة، في المهد، قبل استفحال خطرها، والتنكيل بأصحابها، وإن كان الطالبيون أهلاً للمنصور العباسيّ وبني عمومة.

* ظهور النفس الزكية
ثمّ بعد ذلك، عمد أبو جعفر إلى سَجْنِ آل أبي طالب وتعذيبهم، وذلك قبل ظهور "النفس الزكيَّة" محمد بن عبد الله، وأخيه إبراهيم(3). أمّا ظهور "النفس الزكيّة" ثائراً فكان عام (145هـ-762م) في المدينة المنوَّرة(4). وكان "النفس الزكيّة" متخفِّياً من المنصور، ولم يظهر حتَّى قبض المنصور على أبيه عبد الله بن الحسن المثنَّى، وعمومته، وكثير من أهل بيته وعدَّتهم(5). تصرُّف المنصور، إذاً، هو الذي عجّل بظهور محمد بن عبد الله، وكأنه أراد له الخروج(الثورة) قبل ميقاته، حتَّى لا تتمكَّن به الجذور، وتتمدَّد له الفروع، وتستفحل به الدعوة. كان ذلك سببَ الظهور المباشر، أمَّا السبب المزمن فهو أنَّ "النفس الزكيّة" كان مؤمناً بأنَّ أهل بيت النبوّة المطهَّرين عليهم السلام هم ذريّة الرسول محمّد صلى الله عليه وآله، وهم أحق بالخلافة.

* بايعتم مكرهين
وقد انتصر "النفس الزكيّة" في المدينة، ولم يتخلَّفْ عنه من وجوه الناس إلاّ نفرٌ قليل(6). واشتدَّ خطره، خاصَّة بعد أن استفتى أهلُ المدينة الإمامَ مالك بن أنس في الالتحاق بثورة النفس الزكيَّة، فقال لهم: "كونوا مع الحق". فلم يسألوه: "ومع من الحق؟"؛ لأنَّهم كانوا يعلمون.. بل قالوا له: "ولكنَّ في أعناقنا بيعةً للرجل". أي: لقد أقسمنا على مبايعة الخليفة العباسيِّ، فكيف نحنث في قسمنا؟!.. فأجابهم الإمام مالك: "إنَّما بايعتم مُكْرَهين، وليس على كلِّ مُكْرَهٍ يمين"!(7). اغتمَّ الخليفة العباسيُّ لهذه الثورة التي كادت تُطيح عرشه. ويظهر ذلك من خلال قوله لأحد أعوانه اسحق بن مسلم العقيلي: "خرج عليَّ رجلٌ من ولد فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله، ذو علمٍ وزهدٍ وورع، وقد اتَّبعه وُلْدُ عليّ وولد جعفر وعقيل، وولد عمر بن الخطَّاب، ووُلد الزبَيْر بن العوَّام، وسائر قريش، وأولاد الأنصار"(8). نَدَبَ أبو جعفر لقتال "النفس الزكيَّة" أحد قوَّاده الكبار عيسى بن موسى "فأخرجه إليه من الكوفة في أربعة آلاف فارس" وألفي راجل، وأتبعه محمَّد بن قحطبة في جيش كثيف، فقاتلوا محمَّداً في المدينة حتَّى قُتل"(9).

* اشتداد أمر إبراهيم بن عبد الله
ولم يَنْسَ الخليفة المنصور فتيا الإمام مالك، بل اغتمرها(10) له سانحة(11). أمّا الإمام أبو حنيفة النعمان فلم يكن أقلَّ تأييداً لمحمَّد "النفس الزكية" من الإمام مالك، بل كان يقول بفضله ويحتجُّ لحقِّه. وأدَّى موقفه وموقف ابن أَنَس من محمد إلى المحنة تُصيبهما على يد المنصور، حتَّى ضُرِبَ مالك بالسياط فخُلِعَتْ كتفه، وحُبِسَ أبو حنيفة إلى أن ماتَ صبراً في سجنه(12)!. وفي السنة نفسها، أي (145هـ-762م) ظهر إبراهيم بن عبد الله، أخو محمد، في البصرة وغلب عليها(13)، فأجابه أهل فارس والأهواز(14)، وواسط والمدائن والسواد(15). واشتدَّ أمرُ إبراهيم وغَلُظَ، وعانى منه المنصور أشدَّ المعاناة(16). وكان إبراهيم بن عبد الله قد سار من البصرة في عساكر كثيرة، ومعه جماعات من أهل بيته، وأنصار له من المعتزلة، فسيَّر له أبو جعفر قائديه عيسى بن موسى وسعيد بن سالم في الجند. فحاربهما قرب الكوفة من أرض الطفّ، حيث قتل في الموضع المعروف بباخَمْرى(17)، وفي سنة خروجه نفسها(18). إنَّ المنصور كان يأخذ الطالبيين بالحيلة والدَّهاء والخِدَاع(19)، بينما كان "النفس الزكية" يقابله كارهاً الغدر والاغتيال؛ وآية ذلك أنَّ أبا جعفر كان قد حجَّ سنة (145هـ-762م) وحجّ أيضاً أولاد الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام، وفيهم محمد وإبراهيم، وكانا متخفيين، فقال لهما الأشتر عبد الله بن محمد: "أنا أكفيكم شرَّه". فقال محمد: "لا والله، لا أقتله أبداً غِيلةً، حتى أدعوه". وكذلك كان إبراهيم يتوقَّى، في حروبه، قتل الضعيف والصغير والمرأة، أو أن يُقتلوا بسببه على يد خصومه. وكان يَكره البيات(20). نلاحظ ممَّا تقدَّم أنَّ العباسيين لم يَصِلُوا إلى الخلافة إلاَّ بالخديعة والمكر والظلم، وأنَّ الثورات قامَتْ ضدَّهم في مختلف أنحاء الأُمَّة الإسلامية، خصوصاً ثورة النفس الزكيَّة التي عانى منها العبَّاسيون الأمرَّين، بعدما وقف أئمَّة المسلمين وأتباعهم من سُنَّة وشيعة، مع هذه الثورة. فهلا وقف المسلمون، اليوم، من مختلف أمصارهم ومذاهبهم وقفةً واحدة وصفاً واحداً ضدَّ أعداء الأمَّة الممثَّلين بالكيان الإسرائيلي الغادر ومن يُؤيِّده ويدعمُه من دُول الغرب!.


1- وضوء النبي، السيد علي الشهرستاني، ج1، ص340.
2- الكامل في التاريخ: لابن الأثير (دار صادر ودار بيروت، بيروت، 1965، 5:517).
3- تاريخ الطبري، 7:550، وقارن به كلاً من مروج الذهب للمسعودي 2: 236، 237، وتاريخ ابن خلدون 3: 403.
4- مروج الذهب، 2: 233.
5- المصدر نفسه، 2: 234.
6- تاريخ الطبري، 7: 559.
7- تاريخ الطبري، الطبري، ج6، ص190، وتاريخ ابن خلدون 3: 406.
8- مروج الذهب: 2: 233.
9- المصدر نفسه: 2: 234.
10- اغتمرها: أخفاها في قلبه حتى امتلأ حقداً.
11- سانحة: فرصة مؤاتية للانتقام منه.
12- تاريخ ابن خلدون: 4: 6.
13- تاريخ الطبري: 7: 622 و635.
14- مروج الذهب: 2: 234.
15- تاريخ الطبري: 7: 640.
16- المصدر نفسه: 7: 639.
17- مروج الذهب: 2: 234، 235.
18- تاريخ الطبري: 7: 622.
19- تاريخ الطبري: 7: 559.
20- المصدر السابق: 7: 643.

أضيف في: | عدد المشاهدات: