الشيخ أبو صالح عباس
ورد في زيارة "وارث" المعروفة: "السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ آدَمَ صَفْوَةِ الله،
السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ نُوحٍ نَبِيِّ الله، السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ
إِبْراهِيمَ خَلِيلِ الله، السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ مُوسى كَلِيمِ الله،
السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ عِيسى رُوحِ الله، السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ
مُحَمَّدٍ حَبِيبِ الله..." (1).
فماذا تعني وراثة الإمام الحسين عليه السلام لهؤلاء الأنبياء عليهم السلام؟ وماذا
ورث عنهم؟ ولماذا صار الإمام الحسين عليه السلام وارثاً لهم؟ أسئلةٌ نترككم لتعرفوا
الإجابة عنها في هذه المقالة.
* إقامةُ الدين خيرُ وراثة
يقول تعالى:
﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى
بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ
وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ (الشورى: 13). تُصرِّح الآية الكريمة أنّ المهمّة الأساس
التي اضطلع بها الأنبياء عليهم السلام هي إقامة دين الله تعالى وحفظه بالعمل
والاتّباع، وعدم التفرُّق فيه والاختلاف عليه.
وهذا ما قام به الإمام الحسين عليه السلام، الذي عندما شاهد أنّ ما بناه جدُّه
المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وضحّى من أجله يريد أن ينقضّ، أفصح عن ثورته،
معلناً الهدف منها: "إنّي لم أخرج أشِراً ولا بطِراً... وإنّما خرجت لطلب الإصلاح
في أمّة جدّي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن
المنكر"(2).
فكان ما قام به الإمام الحسين عليه السلام حافظاً لإرث ما سبقه من الأنبياء عليهم
السلام، فاستحقّ بذلك وراثتهم عليهم السلام.
أمّا ما ورثه الإمام الحسين عليه السلام ممّن سبقه من الأنبياء فهنا تفصيله:
* "السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ آدَمَ"
ورث الإمام الحسين عليه السلام من آدم عليه السلام مشروع الخلافة
﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ
إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾
(البقرة: 30)، الذي أثار عجب
الملائكة، فقالوا:
﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا
وَيَسْفِكُ الدِّمَاء﴾ (البقرة: 30)، العجب الذي زال حينما أدركوا حجم
النعمة التي حَبَا الله تعالى نبيّه؛
﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا
ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء
إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ (البقرة: 31).
ومشروع الخلافة كامل الأوصاف، يحمل الخليفة فيه أهليّة الاستخلاف، ولياقة إعمار
الأرض. ولعظمة آدم الخليفة أمر الله تعالى الملائكة بالسجود؛
﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ
اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ﴾
(البقرة: 34) فسجدوا تكريماً له، بعد
أن كانوا يفتّشون عن الحكمة من خلقه. وفي تلك اللحظة بالتحديد، استعرت نار العصبيّة
والتكبّر، وانطلق صوت الكفر؛
﴿قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ
خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ (الأعراف: 12)، الصوت الذي أخذ يتردّد على لسان فرعون،
والنمرود، ويزيد وغيرهم من جبابرة الأرض، ولا يزال إلى اليوم، يستمرّ صراع الحقّ
ضدّ الباطل. وبهذا ورث الحسين عليه السلام من آدم الاستخلاف والمظلوميّة، والمواجهة
والمقاومة بين الحقّ والباطل، المواجهة التي شهدها الخلق في باكورة التكوين
الترابيّ للإنسان.
* "السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ نُوحٍ"
1- القيام الطويل لله:
ورث الإمام الحسين عليه السلام من نوح عليه السلام القيام الطويل لله تعالى، في
مجتمع أبى أكثر أهله إلّا العكوف على آلهة الأوهام، وغائلة الأصنام؛
﴿وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ
وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾ (نوح: 23). وكما دعا نوح عليه السلام على قومه
عندما تيقّن إبلاسهم، وانتكاس جبلّتهم، وتوليدهم للضلال، فقال:
﴿وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى
الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا
عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ (نوح: 26-27)، كذلك دعا الإمام الحسين عليه السلام مثل
دعائه، عندما استيقن من قومه العتوّ، والجحود، والتنكّر لمقام الإمامة والقرابة،
حيث قال: "اللهمّ امنعهم بركات الأرض، وفرّقهم تفريقاً، ومزقهم تمزيقاً، واجعلهم
طرائق قدداً"(3).
2- الدعوة الدائبة المستمرّة:
كما ورث منه الدعوة الدائبة،
﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي
لَيْلًا وَنَهَارًا﴾ (نوح: 5)، والمتنوّعة
﴿ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا *
ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا﴾ (نوح: 8-9). هذه الدعوة الحسينيّة التي انطلقت من مكّة،
إلى المدينة، ثم جدّت المسير بخيول المنايا بين النواويس وكربلاء، وما زالت تنتقل
من بلد إلى بلد عبر الأزمان، وفي كلّ مكان يرفع فيه المستضعفون شعار "لبّيك يا
حسين".
3- تهديد ثمّ فتحٌ كبير:
وكما هُدِّد نبي الله نوح عليه السلام بالقتل
﴿قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ
لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ﴾ (الشعراء: 116)، هُدّد الإمام الحسين عليه السلام بالقتل
ولو مُعلّقاً بأستار الكعبة، فأبى الحسين عليه السلام إلّا النهوض على خطِّ التضحية
والشهادة الموصلة إلى الفتح "من لحق بي منكم استشهد معي، ومن تخلّف لم يبلغ
الفتح"(4)، وهو الفتح نفسه الذي دعا به نوح عليه السلام
﴿فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا
وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الشعراء: 118).
4- التحدّي بإجماع الأمر
وقد تحدّى نوح عليه السلام قومه مُطلِقاً موقفاً عظيماً، حيث يقول تعالى:
﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ
قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي
بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ
وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ
إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ﴾ (يونس: 71).
وهو الكلام نفسه الذي واجه به الإمام الحسين عليه السلام التهديد في العاشر من
المحرّم في خطبته الثانية، التي خاطب بها جيش ابن سعد، حيث قال: "أيم الله، لا
تلبثون بعدها إلّا كريث ما يركب الفرس، حتّى تدور بكم دور الرحى، وتقلق بكم قلق
المحور. عهد عهده إليّ أبي عن جدّي فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثمّ لا يكن أمركم عليكم
غمّة، ثمّ اقضوا إليّ ولا تنظرون"(5).
5- سفينة النجاة:
وكما صنع نوح الفلك في صحراء الرمال الجرداء، شيّد الإمام الحسين عليه السلام صرح
الإصلاح في كبد القلوب اليابسة، وجعل المستحيل ممكناً، بدماء الطهر التي سُفكت،
فكانت نجاة الأمّة بعين الله، كما كانت نجاة من بقي مع نوح عليه السلام،
﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ
الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ (المؤمنون: 27).
تتمّة معنى الوراثة، في العدد القادم إن شاء الله.
1- مصباح المتهجد، الطوسي، ص720.
2- حياة الإمام الحسين عليه السلام، باقر شريف القرشيّ، ج1، ص11.
3- بحار الأنوار، المجلسي، ج45، ص43.
4- (م.ن)، ج45، ص85.
5- اللهوف في قتلى الطفوف، ابن طاووس، ص60.