ولاء إبراهيم حمود
إلى الشهيد محمد أحمد سرور "جهاد"، وسائر شهداء كمين "مليخ" الشهير بتاريخ 7/1/1989 طال غيابك، وعودتك طالَ انتظارها، وبَعُدَ بي زمن الرحيل إليك.. ها هي ذكراك تؤرِّقني، تقلقني مرارة عتابها.. وذكرياتنا بحرٌ يتلاطمُ فيه الحنين أمواجاً...
صديقين كنَّا... كم لعبنا؟ وكم لهونا؟ وكم وكم تشاجرنا وطال الخصام ثم عبرنا عتبات الصبا الأولى؟! أخوين مشينا دروبها، يجمعنا هدفٌ واحد، وشمسٌ واحدةٌ تنيرها أمامنا... وفي قلبينا يتوهج دفء الحياة. ترى، ما الذي دفع خطاك بعيداً عن خُطاي؟ ها آنذا أراك وفي وجهك تموج كل ألوان الحياة، تقف عند آخر منعطف على مفترق الطريق الأخير...
هذي يدك، بل هاتان يداك، ترتفعان، تلوّحان لي.. واحدة تلو الأخرى، ما كنت أعلم حينها أنه كان اللقاء الأخير بيننا، كانت قامتك السائرة بعزمٍ باتجاه ما خفي عن ناظري، توغل في الرحيل... وحدهما عيناك كانتا تواكبان باتجاهي تلويحة يديك... كانت "مليخ" وجهتك التي كنت أجهلها، وكانت لي مع الحياة وجهة أخرى، تصرُّ على موازاة خطك المستقيم، ليصلا ولو فرقتنا الدروب إلى وحدة الأفق المتسع لنا جميعاً. لا أذكر أنك ادعيت يوماً بطولةً خارقةً.. لم أسمعك تنسج أثواب الملاحم على أنوال الخيال الجارف.. كم فاجأتني وأدهشتني عندما علمت، أن موقفك فوق ثرى "مليخ" الطاهر مع إخوانٍ لك ولنا، كان عظيماً في مواجهة أعداءٍ لنا ولك، كان مهيباً، شجاعاً، رهيباً. ها هي أشواقي لك، تغرقني في ملامحك الوضيئة فأنسى آخر التفاصيل وأولها. وما بينهما يغدو عصياً على ذاكرة، لم يُتْلِفْ من صداقتنا موقفاً، لكنها روعة مشهدك الأخير، يفرض عليَّ تأجيل أخبارك، كيف أصبحت أباً بعد رحيلك بسبعة أشهر، وأن "محمد" هو الآخر يشبهك ويكاد أن يكونك. كان مشهدك الأخير رائعاً... بعد أن اصطفاك الله شهيداً فدثرتك الشهادة نقاء ثوبها وانهال ثلج "مليخ" على جثمانك والجثامين الأخرى لإخوانك كفناً أبيض ثلاثين يوماً حفظتك ثلوج "مليخ".
ثلاثين يوماً، استمدت فيها تلك الثلوج حرارة قلبك، وعلى إيقاع نبضه الدافئ، ذابت وسرت تروي يباس حقولها لربيعها المقبل حاملاً بين وريقات وروده وبراعم أزاهيره أريج الانتصار يفوح بعطر نجيعك. يا صديقي، يا موئل اشتياقي، أعاني في حديثي عنك صعوبة التقاط اللحظات التي تسرَّبت كالماء بين أصابعي.. اغفر لي قساوة الختام الآتي... فأنت منذ تلك اللحظة لم تعد... صديقي... لا أجرؤ الآن بعد أن باعدت بيننا سنوات الشهادة أن أراك كذلك، أو أن أمد إليك يداً صديقةً وكفاً كفؤاً لكفك، فهما لم تفعلا ما فعلته يداك.. لا، لم تعد صديقي.. ولم تعد حتى رفيق درب فيما يعنيني، لقد أصبحتَ بعد أن دثر صقيعُ غربة ثلوج "مليخ" حرارةَ قلبك المؤمن أستاذي ومنارة دربي... وقدوتي وقائدي. فيا سيداً من سادة قافلة الوجود، إلى رضوان الله يا سيدي.. أتقبلني مريداً، يبحث عن طريقتك الفريدة، في وصل جسور الحياة بمعابر الآخرة؟! أتقبلني؟ فأنا أحتفظ منك بأجمل كلمة تركتها في عهدة أبيك أمانةً لي. ألا تذكر ذلك الليل البارد، الذي جمَّد صقيعه حتى ماء الوضوء حين فاجأك والدك تتوضأ لتقيم صلاته الخالدة، فأجبته بيقين السالكين العارفين كلَّ الدروب الموصلة إلى الله: "إن طريق الجنان لمن يريدها تبدأ من هنا، من هذه اللحظات وهي تستحق أن نسلكها سوياً.. ومن يريدها لا يجب أن يؤخره عتمٌ أو برد"؟ وبهذه أيضاً سبقتني، وقد كانت دروسك لنا خيراً، وقد وعيتها جيداً، وها أنذا ألقيها على مرأى ومسمع الأجيال...
فهل تراني لائقاً بهذي الدروب؟! أتراك تقبلني يا رائد مشاعل دروب الجنان؟!!