بعد أن عرفنا، في حلقات سابقة، فضيلة حضور القلب وخواصّه
عقلاً ونقلاً في الأحاديث والروايات، وأنّه مفتاح خزينة الأعمال وباب جميع
السعادات، لنتعرّف في هذه الحلقة إلى الموانع التي تحول دون فتح هذا الباب، وحرمان
الإنسان نفسه من مفتاح السعادة وأبواب الجنّة...
* موانع حضور القلب
أمّا موانع حضور القلب في العبادات فهي تشتّت الخواطر وكثرة الواردات القلبيّة.
وهذه ربّما تحصل من الأمور الخارجيّة، ومن طرق الحواس الظاهريّة، كأن يسمع في حال
العبادة شيئاً يتعلّق به ويكون مبدأً للتخيّلات والتفكّرات الباطنيّة، وتتصرّف فيه
الواهمة والمتصرّفة، فيطير الخيال من غصن إلى غصن، أو أنّ عين الإنسان ترى شيئاً
ويكون منشأ تشتّت الخاطر، أو أنّ سائر حواس الإنسان تُدرك شيئاً، فتحصل منه
انتقالات خياليّة.
* هل العلاج في رفع الأسباب؟
ذكر العلماء أنّ العلاج هو رفع هذه الأسباب، مثل أن يصلّي الإنسان في غرفة مظلمة أو
مكان خالٍ، ويغضّ عينه ولا يصلّي في المواضع التي تجلب النظر، كما نقله الشهيد
السعيد(1) (رضوان الله عليه)، حيث قال: "كان المتعبّدون يتعبّدون في بيت صغير
مظلم سعته بقدر ما يمكن الصلاة فيه، ليكون أجمع للهمّ". ولكن من المعلوم أنّ
هذا لا يرفع المانع؛ لأنّ العمدة هي في تصرّف الخيال، فإنّ الخيال يعمل عمله بحصول
منشأ جزئيّ له، بل ربّما يكون تصرّف الخيال والواهمة في البيت المظلم والصغير وفي
حال الوحدة أكثر. نعم، هذا النحو من العلاج ربّما لا يخلو من التأثير والإعانة لبعض
النفوس، ولكنّنا بصدد العلاج القطعيّ، ونتطلّب السبب الحقيقيّ للقلع، وهو لا يحصل
بما ذُكر.
* طائر الخيال وحبّ الدنيا
وربّما يكون تشتّت الخاطر والمانع عن حضور القلب من الأمور الباطنيّة. وعمدة المنشأ
له على نحو كلّي أمران إليهما ترجع عمدة الأمور الأخرى، هما:
الأول: أنّ طائر الخيال هو بنفسه فرّار يتنقّل دائماً كطائر من غصن إلى غصن،
وهذا ليس مرتبطاً بحبّ الدنيا، بل كون الخيال فرّاراً مصيبة يُبتلى بها الناس حتّى
التاركون للدنيا. وتحصيل سكون الخاطر وطمأنينة النفس وتوقّف الخيال من الأمور
المهمّة التي بإصلاحها يحصل العلاج القطعيّ.
الثاني: الموجب لتشتّت الخاطر هو حبّ الدنيا وتعلّق الخاطر بالحيثيّات
الدنيويّة التي هي رأس الخطايا وأمّ الأمراض الباطنيّة. وهذا التعلّق هو شوك طريق
أهل السلوك ومنبع المصيبات. وما دام القلب منغمراً في حبّ الدنيا فالطريق لإصلاح
القلوب مسدود، وباب جميع السعادات في وجه الإنسان مُغلق.
وسنشير إلى كيفيّة رفع هذين المنشأَيْن العظيمَيْن والمانعَيْن القويَّيْن...
* علاج الخيال الفرّار
اعلم أنّ كلّاً من القوى الظاهريّة والباطنيّة من النفس قابل للتربية والتعليم
بارتياض مخصوص. فعين الإنسان مثلاً لا تقدر أنْ تنظر إلى نقطة معيّنة أو إلى نور
شديد كنور عين الشمس مدّة طويلة من دون أن تغمض، ولكن إذا ربّاها، كبعض أصحاب
الرياضات الباطلة لمقاصدهم، فيمكن أن تنظر إلى عين الشمس ساعات مديدة من دون أن
تغمض أو تجد فيها تعباً.
ومن القوى التي تقبل التربية: قوّة الخيال والقوّة الواهمة، فإنّهما قبل التربية
كطائر فرّار ومتحرّك بلا نهاية يطير من غصن إلى غصن ويتحرّك من شيء إلى شيء آخر...
حتى ظنّ كثير من العلماء أنّ حفظ طائر الخيال طائعاً من الأمور الخارجة عن حيّز
الإمكان. ولكن الأمر ليس كذلك ويمكن تطويعه بالرياضة والتربية...
* كيف تطوّع طائر الخيال؟
والطريق العمدة لهذا التطويع هو العمل على الخلاف. وطريقه أنّ الإنسان حينما يريد
أن يصلّي يهيّئ نفسه بأن يحفظ خياله في الصلاة ويحبسه في العمل، وبمجرّد أنّ الخيال
يريد أن يفرّ من يد الإنسان يسترجعه فوراً ويلتفت إلى حاله في جميع حركات الصلاة
وسَكناتها وأذكارها وأعمالها، ويفتّش عن حاله ولا يدعها بحالها. وهذا في أول الأمر
ربما يبدو أمراً صعباً، ولكنّه بعدما عمل فيه مدّة بدقّة وعلاج، يصير طائعاً حتماً
ويرتاض على الإطاعة، فأنت لا تتوقّع أن تتمكّن في أول الأمر من حفظ طائر الخيال في
جميع الصلاة، ولكنّ هذا الأمر لا بُدَّ من أن يكون بكمال التدريج والتأنّي والصبر
والتأمّل، فيمكن أن يحبس الخيال في أول الأمر في عُشر من الصلاة، ويحصل حضور القلب
في عشر منها وبالتدريج. وشيئاً فشيئاً يتغلّب على شيطان الوهم وطائر الخيال بحيث
يكون في أكثر حال الصلاة زمام الاختيار بيده.
ولا بُدَّ للإنسان من ألّا ييأس، فإنّ اليأس هو المنبع للوهن والضعف كلّه. ونور
الرجاء في القلب يوصل الإنسان إلى كمال سعادته. ولكنَّ العمدة في هذا الباب هو حسّ
الاحتياج الذي هو فينا قليل، وأنّ قلوبنا لم تؤمن بأنّ رأس المال في سعادة العالم
الآخر ووسيلة العيش في الأيّام غير المتناهية هي الصلاة، بل نحسب أنّ الصلاة أمر
مفروض علينا، ونراها تكليفاً وتحميلاً.
(*) كتاب الآداب المعنوية للصلاة، الفصلان (العاشر والحادي عشر).
1- الشيخ زين الدين الجبعي العاملي.