السيد هاشم صفي الدين
قال تعالى:
﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى
الْعَالَمِينَ﴾(البقرة:251).
غنيٌّ عن البيان الأهميَّة الاستثنائيَّة لملاحقة ومعالجة الآفات والمشاكل
الاجتماعيَّة التي تحل في أيِّ مجتمع بغضِّ النظر عن ثقافته واتِّجاهاته الفكرية
والقِيَمية. والقيام بهذه الوظيفة الخطيرة -عادةً- منوط بأهل العلم والمعرفة
والقائمين على الشؤون العامة خاصة أولئك المعنِّيين بالشأن الاجتماعي المباشر. ذلك
أنّ ترك الأمور على عواهنها سيولِّد نتائج خطيرة تعود بالضرر على الجميع وتكون
عاقبتها الفساد الذي ينتشر ويعم ويطال مختلف مناحي الحياة.
* مسؤولية صلاح الإنسان والمجتمع
لم يكن طارئاً في الفكر الديني. أن يتولى الأنبياء والرسل والصلحاء والأولياء هذه
المهام ولم يزهدوا حتى في تناول كلِّ تفصيل يساعد على إصلاح الإنسان والمجتمع
وعلاقاته. ووفق هذه المنهجية جاءت التوجيهات والتعاليم الدينية لتغطي مساحةً واسعة
لتدفع باتجاه تكريس قيم الفضيلة والإيمان حفظاً للمجتمع ودرءاً للمساوئ الناشئة من
الجهل والتسلّط والطمع والطغيان وما سوى ذلك من أسباب الفساد والإفساد. من وحي هذه
النظرة نتطلَّع إلى المسؤوليَّات الجسيمة التي ينبغي أن يتحمَّلها أهل الفكر
والمعرفة والإيمان ليقوموا بأداء هذا الدور آخذين بعين الاعتبار أننا نعيش في عالمٍ
صاخب تتسارع فيه القضايا والأحداث والمتغيرات حتى ليشعر المتابع بأننا بتنا في عالم
يسير على غير هدى دون أدنى قدرة على السيطرة والتحكّم. بتنا نعيش في إطار نُظمٍ
تفرض أنماطاً مفاجئة وغير مسبوقة في ظلِّ غلبة إرادة الأقوى الذي أتقن الإكراه
والترويج لباطله بأيدٍ ناعمة وتحت شعارات برّاقة سخرت لها مؤسسات دولية وجامعات
ومراكز دراسات وأنظمة وعلاقات ورؤى تتحكَّم بالدول والشعوب والمجتمعات.
* مواجهة أشكال الطغيان
إنَّ الضغط الهائل الذي تتعرَّض له المجتمعات الفقيرة في الدول المصنَّفة (تابعة)
لا يجوز بحال من الأحوال أن يُشعرنا بالعجز والضعف والانكفاء بل يثير فينا قوَّة
التحدي وروح المسؤوليّة المضاعفة للقيام بمهمة الإصلاح والهداية والاستقامة. لا يمرّ
يوم إلا ونطّلع من خلال وسائل الإعلام المتوفّرة بكثرة على كوارث اجتماعية وإنسانية
تطال منطقةً أو مؤسَّسات كبيرة أو تحصل تغييرات هائلة في معادلات دولية أو تنشأ
حروب ونزاعات وكل هذه الأمور تنتج أزمات اجتماعية حادة ومتفاقمة فترى أنّ عدد
الفقراء في ازدياد مطّرد وأنّ الدول الفقيرة والعاجزة تزداد عدداً وسوءاً وأنَّ
الكوارث البيئية والصحية والنفسية تحمل اتجاهات مخيّبة. والمصيبة الأكبر أنّ
المجتمعات الضعيفة أساساً هي التي ستتحمل العبء الأكبر. لهذا لا يمكننا اليوم أن
نتناول القضايا الاجتماعية بغض النظر عن العوامل السياسية والاقتصادية ومصالح الدول
المتغطرسة والمهيمنة على مقدرات الشعوب بالقهر والظلم، بل إنّنا نواجه أعتى أشكال
الطغيان والاستعلاء من خلال تسخير مقدّرات الشعوب وخيراتها لتحقيق هيمنة ثقافية
شاملة تتقصَّد إلغاء الخصوصيات الثقافية والتاريخية للشعوب.
* هيمنة على امتداد العالم
إنّ فكرة الهيمنة الثقافية لطالما راودت الطغاة والجبابرة ومدَّعي الإلوهية والذين
شيدوا حضارات مزعومة على حساب الفقراء والمساكين والمظلومين ممن حرموا أبسط مقوّمات
العيش الكريم ومن الذين استضعفوا وأهملهم التاريخ. إلا أنَّ ما نشهده في عالمنا
اليوم هو أسوأ وأشنع أنماط الهيمنة الثقافية عمقاً وخبثاً وانتشاراً لأنَّها تمارس
على امتداد العالم في أبشع تصنيف للشعوب ولأنَّها تُفرَض باسم القوانين الدولية
وتحت راية الحرية والديمقراطية. وفي المقابل هيأ الله تعالى للبشرية طائفة تعمل
وتجاهد وتخلص لتبطل أكذوبة هؤلاء المدَّعين ولتفضح مشاريعهم ولتحافظ على القيم
الإنسانية. قال تعالى:
﴿فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن
قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ
قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا
أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ﴾(هود:
116). إنَّ ردة الفعل الغريزية لأي مجتمع حين يدهمه الخطر الجدي والشامل أن
ينكفئ إلى الخصوصية وأن يلجأ إلى المقاومة معتمداً على عناصر القوة فيه.
* جذور مقاومتنا الشامخة
نحن نفخر في هذا الشرق عموماً وفي منطقتنا تحديداً أننا نمتلك ذخيرةً وافرة وننتمي
إلى تاريخ أصيل تنبع قيمه من الديانات السماوية والوحي الإلهي. فهذه الخصوصية
الشامخة والمتينة أغنت البشرية وهي جذور مقاومتنا الثقافية القادرة في كلِّ زمن على
إنتاج حيوية مقاومة للعدوان والاحتلال والظلم. وفي هذا السياق ومن موقعنا المقاوم
ونتيجة إحساسنا بالمسؤوليّة لما يتهدّد مجتمعنا اللبناني عموماً من مخاطر جدية
ومشاريع خبيثة تستهدف التماسك والأصالة في الثقافة والهوية ولكي نضمَّ الجهود إلى
كل الجهود المخلصة المساهمة في خلق بيئة ثقافية-اجتماعية تساعد على حفظ المجتمع من
الانحراف والضياع أحببنا أن نسلط الضوء على عنوان كبير ومكوّن أساسي للمجتمع وهو (الأسرة).
إن مشاكل كبيرة كالبطالة والمخدرات والأمراض النفسية والفقر والشيخوخة المهملة
وفقدان الأمان والضمان الاجتماعيين وعمالة الأطفال وغيرها من العناوين تشغل كبرى
سياسات الدول وتهدِّد بشكل دائم استقرار المجتمعات وتماسكها وتضعها في مهبِّ
التفكّك والضياع. ولا مجال للإدعاء بأنَّ هناك عاملاً وحيداً يؤدِّي إلى حصول هذه
المصائب، لكننا نعتقد أنّ أحد أهم مناشئ هذه المشاكل هو التفكك الأسري الذي يوجد
انعدام توازن في بنية المجتمع.
* خطر استهداف الأسرة
إنَّ مكمن الخطر اليوم هو في استهداف الأسرة ككيان حاضن للفرد وكمرجع فكري وعاطفي
وإنساني ينهل منه كلّ المجتمع. إنَّ أخطر ما نلمسه في السياسات الثقافية والتربوية
والإعلامية هذا الجنوح المفرط لإفراغ الأسرة من عناصر قيمومتها وقيمتها لحساب
الفردية التائهة الحائرة في ظلِّ حقوق مدَّعاة ووظائف متبرَّعة وقوانين عامة لا
تحمي حيث يندر التكافل والتضامن، بينما نجد أنَّ الأديان السماوية أولت موضوع
الأسرة عناية خاصة في التربية والتشريعات واعتبرتها ركيزة السلامة والاستقامة للفرد
والمجتمع معاً. فالأسرة هي العائلة الصغيرة في إطار البيت الواحد وهي النواة التي
حضَّ الإسلام على تكوينها فكان الزواج والحثّ عليه من المستحبَّات الأكيدة بنفسه
وأحياناً يكون واجباً يفترض العمل على تأمين مقدِّماته كأولوية للشباب لتأمين
الحصانة الروحية والعاطفية في إطار المسؤولية المتبادلة بين الرجل والمرأة، قال
تعالى:
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ
أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً
وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾(الروم:21).
من هنا تبدأ القصة، البيت الزوجي هو محل السكن والهدوء مقابل كلّ التوترات والضغوط
الاجتماعية والفكرية والنفسية الناشئة عن صعوبات الحياة. البيت الزوجي هو الملجأ
والملاذ وهو المساحة الرحبة لإفراغ المشاعر بشكل آمن ولتكوين قدرة مشتركة على تحمّل
المسؤوليات. الأسرة هي هذا الاحترام المتبادل والتفاهم على إدارة شؤون العائلة. وفي
المقابل فإنَّ الإعراض عن الزواج والاستظلال بظلِّ البيت الزوجي كان وما زال أحد
أهمّ أسباب التحلل الخُلقي والضياع للشباب وتفاقم الأزمات وتفريغ الطاقات الإنسانية
على غير هدى واستقامة. الأسرة هي الأب والأم والأولاد، هي الحضن الدافئ للمخلوق
العاجز والضعيف وهي التربية بالفعل قبل الكلمة وهي النفس الذي ينبض في قلب كلِّ ابن
ومنه تتولَّد الآداب والعادات وفيه تزرع القيم وتنمو على مهل فتُخرِج أجيالاً
صالحين ومفيدين، في الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام: "لا يزال المؤمن يوّرث
أهل بيته العلم والأدب الصالح حتى يُدخلهم الجنة جميعاً ولا يزال العبد العاصي يورث
أهل بيته الأدب السيئ حتى يدخلهم النار جميعاً"(1).
* محل تجلّي الإنسانية
الأسرة هي بذل وتضحيات الآباء والأمهات بلا ثمن. الأسرة هي التعاون، هي الجامعة
والمدرسة بلا شهادة، وهي الوفاء واحتضان الشيخوخة بلا مأوى للعجزة. الأسرة هي
الحوار والانفتاح وبناء المستقبل وهي النصيحة بلا مجاملة وبكلمةٍ واحدة الأسرة هي
محل تجلي الإنسانية بلا إضافة. إنّنا نعيش ذكرى الولادة العطرة للسيدة الزهراء
عليها السلام وهي التي عاشت ونهلت في كنف الأسرة النبويَّة وكونت بالعلم والمحبَّة
والنور الأسرة العلوية فقدمت نموذجاً كاملاً لبناء أسرة تغذَّت من رحيق الوحي
وألهمت البشرية قدوةً وأسوةً صالحة. نتيجة كل ما ذكر ونتيجة الأهمية الاستثنائية
لبناء الأسرة الصالحة في صلاح المجتمع يشرِّفني أن أعلن إطلاق "الحملة الأهلية
للثقافة الأسرية" آملاً من مختلف المؤسسات الثقافية والتربوية والإعلامية التركيز
خلال الأشهر القادمة على موضوع الأسرة كقيمة إنسانية ودينية ووطنية كما أرجو أن
تكون مساهمات أهل العلم والفكر والفن والأدب والإعلام مفيدةً لنا جميعاً في تقدِّم
مجتمعاتنا نحو السموِّ والرفعة شاكراً القيمين على هذه المبادرة الكريمة.
(*) مقطتف من كلمة ألقاها سماحته في حفل إطلاق الحملة الأهلية لتعزيز الثقافة
الأسرية.
(1) جامع أحاديث الشيعة، السيد البروجردي، ج14، ص410.