ديما جمعة فوّاز
"اضحك تضحك لك الدنيا"، عبارة يكرّرها أخي علاء دوماً،
فهو يعاند الحزن ويتحدّى الألم ويحاول دوماً أن ينظر إلى الجزء الممتلئ من الكوب..
وعلى الرغم من أنّني توأمه إلّا أنّني أختلف معه كثيراً في تقدير الأمور، فأنا أدرس
دائماً خطواتي وأعتبر أنّ الحياة تخبّئ لنا الأسوأ.
وانعكس ذلك على أسلوب حياتنا. فعلاء دوماً مرتاح البال ولا يشغل بالَه همٌّ، وحين
يبتسم ترتفع شفته العليا قليلاً نحو اليمين فيبدو وجهه أكثر إشراقاً وغموضاً.. أمّا
أنا فدوماً أفكّر وأخطّط لكلّ خطوة في حياتي. ولطالما تشاجرت معه على قلّة اكتراثه
لما يجري، واستفزّتني ضحكته الساحرة التي يواجه بها مخاوفي في قوله دائماً: "اتّكل
على الله!".
حين مرضت جدّتي، كنت متوتّراً، خاصّةً بعد تأكيد الأطبّاء صعوبة وضعها، أمّا علاء
فكان يقول: "ستكون الجدّة بخير، إنّه مجرّد امتحان من الله حول مدى تعلّقنا بحبال
رحمته". واستمرّ علاء يردّد ما كنت أعتبره أوهاماً ومحاولةً للهروب من الواقع
الحتميّ، لتكون المفاجأة بعد أسابيع طويلة من العلاج: عودة جدّتي من المستشفى إلينا
بصحّة وعافية... وصدقَتْ أقوال علاء!
منذ فترة، تمّ صرف والدي من العمل. كان الجوّ غير مستقرّ في المنزل، لدرجة أنّي
أوقفت اشتراكي في النادي الرياضيّ، أمّا علاء فكان، ورغم حجم الكارثة، يمارس حياته
بشكل طبيعيّ ولم يمنعه واقعنا الاقتصاديّ الصعب من تلبية الدعوات، وكان يلجّ مطالباً
والدي بالخروج معه! أما قمّة إهماله، برأيي، فكانت حين قرّر السفر بحجّة التحاقه
بالعمل لأسباب طارئة.. شعرت بالحنق منه وصحت في وجهه: "ألا تدرك حجم معاناتنا؟! كم
أنت أنانيّ!". ابتسم بهدوء هامساً: "وهل تعتقد أنّك تملك مفاتيح الحلول كلّها؟"
قاطعته غاضباً: "أنا أبحث عن تلك المفاتيح! أما أنت فلا تبادر بأيّ عمل مفيد" ردّ
متبسماً: "لماذا لا تتّجه نحو مالك تلك المفاتيح طالباً منه أن يخصّك بواحد منها؟
هل تعرف كيف تجد الخير؟ هل تعرف كيف؟!". لم أجبه، واكتفيت بإشاحة عينيّ عنه غير
مكترث بما يقوله، فكرّر سؤاله: "هل تعرف كيف تجد الخير؟!". صمتَ ثوانٍ، ثمّ
أردف بعد أن يئس من تجاوبي معه: "ستعرف قريباً يا عزيزي، سأخبرك حين أعود..".
كانت تلك كلماته الأخيرة قبل أن يُغلق الباب خلفه بهدوء، فقفزت خلفه لأوصده صائحاً:
"حتّى إنّك لا تقفل الباب خلفك.. وتريدني أن أجد الخير!!".
بعد سفر علاء ببضعة أيام، تسلّم والدي عملاً جديداً وسارت أمورنا بشكل أفضل. كنت
بانتظار عودته لألومه؛ لأنّه غادر في تلك الظروف الصعبة، ولكنّ علاء لم يعد!
أتانا خبر استشهاده بعد أسابيع، خبر تلقّاه الجميع بصبر. أما أنا فشعرتُ بالجزع
الشديد، وبقيت أسير المرض والانهيار أيّاماً عدّة. إلى أن زارنا صديقه "أحمد"
وحدّثني بكلمات كانت كفيلة أن تعيد تقييمي للكثير من المواقف.
صدمني حجم المشاكل التي كان علاء يعيشها ويسرّها لصديقه، ولكن.. لماذا لم يكن يظهر
عليه الألم؟ لماذا حين كنت أتّهمه باللامبالاة لم يبادر للدفاع عن نفسه يوماً؟
أتاني الجواب على لسان أحمد عندما قال: "كان الشهيد ينصحني دوماً أن أودع همومي في
سجدة طويلة قبل النوم، وأسلّم الدنيا لخالقها، وكان دوماً يمازحني سائلاً: هل تعرف
كيف تجد الخير؟". حملقت به وأنا أهمس متوسّلاً: "كيف؟ هل أجابك عن سؤاله يوماً؟".
هزّ أحمد رأسه قائلاً: "الجواب في قول النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم:
تفاءلوا بالخير تجدوه! فكم من أذيّة ردّها الله عنك برحمةٍ منه".
ودّع أحمد الجميع، ولحقتُ به أتلمّس منه أنفاس أخي علاء. عندما أوصدت الباب خلفه
تذكّرت أنّ علاء حين رحل لم يُغلقه؛ لأنّه أدرك أنّني سأنتظر جوابه وسأحصل عليه،
سأجد الخير بالتفاؤل.. وكم تعجّبت حين وقعت عيناي على المرآة في مدخل المنزل، ووجدت
أنّني للمرة الأولى أبتسم! وكم استمتعت بانعكاس صورتي وشفتي العليا ترتفع يميناً
لتظهر ملامحي شديدة الشبه بتوأمي علاء!