مرّ الإشراف التربوي(1) بتطوُّرات ومراحل عديدة منذ
استحداثه في بدايات القرن الماضي. ويمكن القول إنَّه كان، ولا يزال، خاضعاً لأمرين
رئيسين: الأوّل غايات التعليم العامة، والثاني المستوى العام لإمكانات المشرفين
والمعلِّمين العلمية والتربوية. فغايات التعليم كانت تُحدِّد، على الدّوام، نوعية
المتعلِّم المنوي تخريجه، وهي بالنسبة للمعلِّمين تحدِّد المعارف أو المهارات أو
الكفايات المطلوبة للتمكّن من تحقيق النوعية المرجوة للمتعلِّمين. أمَّا المستوى
العام لإمكانات المشرفين والمعلمين فمن شأنه تحديد آفاق التفاعل بينهما، وبالتالي
البرامج والأساليب المعتمدة لتحقيق التطوُّر المطلوب في أداء المعلم. ومع شيء من
التبسيط والتسامح يمكن وصف مراحل الإشراف التربويِّ على الشكل التالي:
* المرحلة الأولى: مرحلة الرقابة والحكم
يمكن تسمية هذه المرحلة بمرحلة الرقابة والحكم على المعلم، حيث ينشغل المشرف
التربويِّ بأولويتين رئيستين: الأولى وهي التحقُّق من مثابرة المعلم على الأعمال
المطلوبة منه، والثانية تشخيص جدارة المعلم. أمَّا الأنموذج المطلوب في الأداء فهو
أنموذج عام مطروح في المنشورات التربويَّة، حيث يتقيَّد كلٌّ من المشرف والمعلِّم
بالكثير من حذافيره ومندرجاته. يمكن وصف هذه المرحلة بعناوين عديدة: كالتفتيش،
والملاحقة، والتقييم. وأدواتها الرئيسة هي التقرير، والتنبيه، والتقدير، والترفيع،
والإقالة، وغير ذلك من الأدوات الخارجية التي تسعى للتأثير في المعلم.
* المرحلة الثانية: مرحلة التوجيه والمساءَلة
تبدأ هذه المرحلة بعد الاطمئنان، عادة، إِلى جدارة المعلِّمين ومثابرتهم، ووضوح
التعليمات حول الأداء، ثمَّ ظهور معايير موحَّدة لتقييم الأداء. في هذه المرحلة
ينشغل المشرف بأولويتين رئيستين: الأولى مستوى التزام المعلم بالتوجيهات المحدَّدة
والمعمَّمة، والثانية درجة الاحتراف التي وصل إليها المعلم. أما الأنموذج المطروح
في أداء المعلِّم فهو أنموذج المشرف الخاص، الذي قد يختلف مع غيره، أو يتَّفق، لكن
له سماته وملامحه الخاصة. يمكن وصف هذه المرحلة بعناوين عديدة: كالمواكبة،
والمرافقة، والتصنيف. وأدواتها الرئيسة هي المشاهدات الصفيّة، والإرشادات الخطيّة،
أو الاتّفاقات ذات الطابع الرسمي، منح وحجب الصلاحيات، أو توسيع وتضييق المسؤوليات.
* المرحلة الثالثة: التحفيز
ويمكن تسميتها أيضاً بتوفير الخيارات. والمقصود بالتحفيز هنا ليس إجراءات محدَّدة
في بعض الأوقات، بل سياسة ثابتة، وإستراتيجية دائمة، في كلِّ الأوقات والأعمال،
أمَّا الخيارات فهي الطرق والتقنيات التي يؤمنها المشرف ويعرضها أمام المعلّم.
تبدأ هذه المرحلة بعد تمكّن المعلِّمين من معظم المعارف والمهارات والمواقف
التقليدية المطلوبة، حيث بدا واضحاً، للمشرف والمعلِّم، ضرورة اكتشاف مناطق جديدة
في الأداء تتناسب مع مبدأ التطوُّر الدائم في العمل. ينشغل المشرف في هذه المرحلة
بأولويتين رئيستين: الأولى وجود منهج واضح في أداء المعلم، والثانية ظواهر الابتكار
في هذا الأداء. أمَّا الأنموذج المطروح للأداء فهو حصيلة تفاعل المشرف والمعلم، مع
اتجاه حاسم في أن يكون متناسباً مع نمط المعلم الذهني والنفسي والحركي. يمكن وصف
هذه المرحلة بعناوين عديدة: كالرعاية، والمساعدة، والتشجيع. وأدواتها الرئيسة هي
التقييم الذاتي للأداء، نتائج أبحاث ومشاهدات في الأداء، خيارات ونماذج متاحة، وغير
ذلك من الأدوات التي تدخل في صلب الأداء التعليمي للمعلم.
* المشرفون والتعامل مع المراحل
يمكن الاعتماد على هذا التقسيم في وصف الاتجاه العام في تطوُّر أبرز عمليات الإشراف
التربوي، كما يمكن الاعتماد عليه في تحديد المسارات الممكنة لأي تجربة جديدة في
الإشراف التربوي. إنّ هذا التقسيم لا ينفي وجود تداخل لمكوِّنات المراحل الأخرى في
كلِّ مرحلة، فالحديث عن الاحتراف، أو الابتكار، يمكن أن يتم في المرحلة الأولى، كما
الحديث عن الجدارة والمثابرة، يمكن أن يكون في المرحلتين الثانية والثالثة. والأمر
نفسه فيما يتعلّق بالأنموذج المطروح للأداء، حيث الإمكانية واردة للإفادة من أيِّ
أنموذج عمومي في المرحلة الثالثة، فضلاً عن المرحلة الثانية. لكن القضية هنا تكمن
في الاتجاه السائد وأولويات الاهتمام. ثم إنّ الوصول إلى المرحلة الثالثة لا يعني
القطع مع الثانية أو الأولى، لكن من الضروريِّ جداً احترام مقتضيات كل مرحلة للحفاظ
على روحية التطوُّر والتقدُّم، وفي بعض الأحيان لتكريسها كأمرٍ واقع يعزّز إمكانية
التكيُّف السريع معها. إنّ الإشراف التربوي على أداء المعلِّمين لا يمكن أن تحدَّد
عناوينه وأولوياته وأدواته، فضلاً عن غاياته ومناهجه، إلا على ضوء الواقع الموجود
المتمثِّل، كما ذكرنا، بالغايات العامة للتعليم والمستويات المتوافرة لدى المشرفين
والمعلِّمين. لكن هذا لا يمنع من أن يكون لعملية الإشراف، ذاتها، دور في الضغط في
هذا الاتجاه. والمشرفون، كما يملكون الخيارات في تطوير ذواتهم وتمكين معلِّميهم،
يملكون أيضاً الخيارات في تحسين غايات التعلّم، على الأقل ضمن الهوامش المتاحة لهم.
لكن المعضلة الرئيسة تكمن في قدرة هذه المجموعة الريادية على تطوير العمل التربوي،
وبالتالي التكيف مع مقتضيات المرحلة التالية أو السابقة، لا سيما إذا ما ألفت
مرحلتها واستأنست بعناوينها وأدواتها. وبعض المشرفين يربطون بين قدرتهم على الإنجاز
وسلطتهم العلمية على المعلمين، وهذا ما لا يمكن التمسُّك به مع الانتقال من المرحلة
الثانية إلى الثالثة. وسوف يكتشف المشرفون، عاجلاً أم آجلاً، أنَّ الكثير من
المعايير والتوصيات والنماذج، سوف يفقد حيويته مع تطوُّر إمكانات المعلمين، وأنَّ
كثيراً من الإرشادات التي لطالما كان لها الأثر الطيب في الأداء، ستتحوَّل مع الوقت
إلى تعليمات غير ضرورية أو معيقة، والإصرار عليها هو من قبيل الإصرار على البقاء في
المكان نفسه والزمان نفسه، مع تغيُّر الحاجات والأهداف.
إنّ ما تودّ هذه المقالة طرحه يتَّصل بالغاية الأخيرة لعملية الإشراف، وهي الوصول
بأداء المعلمين إلى أرقى المستويات الممكنة، وهذا ما لا يتحقَّق، على المدى البعيد،
إذا ما بقي المشرف مشغولاً بالتفتيش عن جدارة المعلم أو مثابرته على الأعمال
المطلوبة، ولا في الحرص على تقيّدهُ بالإرشادات والتوجيهات المقرَّرة، فهذه هموم
يجب أن لا تسيطر على أعمال المشرف إلى ما لا نهاية، وحسبها مراحل يمرُّ بها الإشراف
تنتهي في فترات محدَّدة مع ظهور بعض المؤشِّرات المطمئنة في هذا المجال. ما يتعيَّن
الاستمرار به هو تفعيل طاقات المعلِّمين إلى أبعد الحدود الممكنة، وفتح الآفاق
أمامهم لكي يكتشفوا مناطقهم الجديدة ومناهجهم الأثيرة، وهذا لن يتحقَّق إلا
بالتحفيز الدائم والتزويد المستمر بالخيارات النوعية الجديدة. مهما كان الحكم على
المعلِّم دقيقاً، ومهما كان التزام المعلم بالتوجيهات تاماً وناجحاً، لن يكفيه
ذلك للولوج إلى مرحلة الإبداع والابتكار، حيث ينطلق الأداء بطاقته الذَّاتية، ويغدو
الإشراف خدمة نوعية تدعم هذه الانطلاقة وتوفّر لها الكثير من عناصر الحياة.
*****
(1) نعني بالإشراف التربوي الأعمال التي يقوم بها اختصاصيون في التعليم بغية تطوير أداء المعلمين في المدارس.