مركز الحرب الناعمة للدراسات
يرى بعض الناس أنّ موضوع "الحرب الناعمة على الحجاب" هو من قبيل "نظريّة المؤامرة"،
وأن لا رابط بين الحرب الناعمة وقضيّة الحجاب. لكن المظاهر التي صارت لافتة على
مستوى سلوكيّات "حجاب المودرن" أو "حجاب الموضة" دفعت إلى التعمّق في البحث
والاستدلال، وكُشف أنّ هناك حرباً ناعمة شرسة وحقيقيّة تطال مجموع منظومة "قيم
المرأة" في الإسلام في العنوان الأوّلي، وتهدف إلى التقليل من قيمة ورمزيّة الحجاب
باعتباره المفتاح لمنظومة القيم، عبر تكتيكات وأساليب تعتمد القوّة الناعمة، وهو ما
سنعالجه في المقال.
* الأميركي يقود حرباً ناعمة على الحجاب
في العقود الأخيرة تقدّم النموذج الأمريكيّ على نماذج الحرب "الخشنة" على الحجاب
وفق الاستراتيجيّة الفرنسيّة والبريطانيّة التي كانت سائدة، وارتكزت على العلمانيّة
المقاتلة المعارضة والمناهضة لقيم الدين، وسعت إلى استهداف الدين والمؤسسات
الدينيّة، والعمل لخلع الحجاب واستئصاله نهائياً.
في حين ارتكز نموذج "الحرب الناعمة الأميركيّة" على ترويج قيم الليبراليّة الفرديّة
والعلمانيّة البنيويّة، وإجراء عمليّات تحويل بنيويّ لمنظومة قيم المرأة، من خلال
ترويج مفهوم "تمكين المرأة والمساواة بين الجنسين" وتغيير "شخصيّة الحجاب" لا خلعه،
تحت عناوين حرية الفرد في اختيار اللباس، والموضة والتحرّر من القيود والضوابط
الاجتماعيّة والدينيّة التي "تكبّل المرأة".
* تحويل منظومة القيم
وهكذا، انتقلت رحى الحرب على الحجاب نحو استراتيجيّات ناعمة، أقلّ استفزازاً، وأكثر
دغدغة للمشاعر ومحاكاة للوعي واللّاوعي الفرديّ. ومن جهة أخرى، قدّمت تكنولوجيا
الاتّصالات ووسائل الإعلام لأميركا وللغرب عامّة بديلاً ناعماً شديد الانتشار
والتأثير؛ عبر غزو العقول والقلوب في العالم الإسلاميّ بعد ظهور العولمة، وأصبح
بمتناول اليد الوصول إلى أيّ فتاة مسلمة ومخاطبتها بصورة فرديّة وجماعيّة عبر
الأدوات الناعمة، نظير التلفزيونات ووسائل التواصل الاجتماعيّ، وتقديم كلّ أشكال
الاستهلاك المُستمدّ من أسلوب الحياة الأميركيّ والغربيّ، وعلى رأسها الموضة
والملبوسات الأميركيّة والأوروبيّة المثيرة والملوّنة. وهكذا أصبح بالإمكان تحويل
منظومة القيم دون استفزاز المسلمين والمسلمات، ودون الوقوع في فخّ محاربة العقل
الجمعيّ الإسلاميّ.
وفي ضوء ذلك، بدأ الأمريكيّ موجة ترويج مفاهيم تفضي في مسارها النهائيّ إلى تحوّل
داخليّ في بنية ومنظومة "قيم المرأة" كما يراها الإسلام، والحجاب منها بصورة خاصّة،
ومن هنا لاحظنا بداية انتشار عناوين ومفاهيم غربيّة في بيئتنا الإسلاميّة مثل "تمكين
المرأة" و"الجندر"(1) و"المساواة بين الجنسين"، وهي عمليّات تكتيكية بديلة لمحاربة
الحجاب بصورة مباشرة، أي الانتقال إلى عمليّات تحويل بنيويّ لقيم الحجاب، عبر ترويج
"الحجاب الليبراليّ" أو "الحجاب المودرن"، وهذان النموذجان وَفَدا من مسارب وقنوات
تسريب مفاهيميّ لدول وبيئات قريبة من الغرب، وخاصّة البيئة التركيّة التي اختلطت مع
أوروبا والغرب في القيم والسلوكيّات(2).
* العلمانيّة الأميركيّة التحويليّة
اتّجهت العلمانيّة البروتستانتيّة الأميركيّة، وتبعتها بصورة كبيرة ولاحقة
البروتستانتيّة البريطانيّة، خلافاً للعلمانيّة الفرنسيّة، نحو استراتيجية ترويج "الأخلاق
والقيم البروتستانتية بغطاء الليبراليّة والديموقراطيّة وقيم الحداثة بدلاً من
ترويج التبشير الدينيّ المسيحيّ البروتستانتيّ". وهي قضية لها بُعد "مفهوميّ" وبُعد
"تطبيقيّ"، حيث لا ترى هذه البروتستانتية البراغماتيّة بطابعها أيّ جدوى ونفع من
المواجهة المباشرة مع قضيّة الحجاب، واعتقدت أنّه بالإمكان الالتفاف تكتيكياً على
قضيّة الحجاب بدلاً من تحويله إلى قضية إشكاليّة إعلاميّة وثقافيّة، لها رمزيّتها
في الصراع بين الإسلام والغرب، وهو ما يثير حفيظة المجتمعات المسلمة، ويصنع أزمة
فكريّة وسلوكيّة كبرى حوله، ما دام أنّه يمكن التغلغل عبر تمرير وترويج القيم
الغربيّة إلى المجتمعات المسلمة، وغرسه في عقول وقلوب المسلمات بصورة خاصّة. وهو ما
مكّنهم من تحجيم الحجاب بوصفه مجرد "غطاء رأس"، حيث سُمح للفتيات والنساء
المسيحيّات الأميركيّات بلبس الحجاب في إطار المؤسّسات الكنسيّة وفي المجتمع،
لكنّها مسخت الحجاب وضربت القيم الدينيّة عبر السينما وهوليوود (عشرات الأفلام التي
تَسخر من الحجاب الكنسيّ)، وذهبت نحو ترويج القيم الليبراليّة وترويج قيم قطاع
اللذّة (السينما، المجلّات الإباحيّة، الشركات السياحيّة، صناعة الأزياء، الملبوسات،
الخ).
* لسنا ضدّ الحجاب
ونجد أصدق تعبير عن هذا الاستنتاج المنطقيّ لاستراتيجيّة القوة الناعمة الأميركيّة
ضدّ الحجاب ما قالته "هيلاري كلينتون" وزيرة خارجيّة أميركا، في إحدى مقابلاتها مع
قناة خليجيّة سعوديّة: "أؤيد ارتداء المرأة للثياب التي تعبّر عنها وتعكس شخصيّتها،
وضدّ إجبار المرأة على ارتداء أزياء محدّدة تُفرض عليها، أو الظهور بحلّة أو شكل
معيّنين"(3).
ولهذا، لم تمانع القوة الناعمة الأميركيّة بقاء غطاء الرأس، وبوحي من البراغماتيّة
الأميركيّة، والتفّت على قضيّة ورمزيّة تمسّك المسلمين بالحجاب كفريضة وشعيرة
دينيّة.
ولهذا رأينا أنّ الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما عيَّن سيّدة محجّبة من أصول
مصريّة "داليا مجاهد" في منصب مستشارة لشؤون العالم الإسلاميّ، كما لم تجد قناة
"BBC" حرجاً في توظيف محجّبات مسلمات، ولم تجد سلسلة مطاعم "مكادونالد" و"KFC" أيّ
حرج من توظيف فتيات مسلمات محجّبات ما دام أنّ لباسهنّ هو اللباس الخاصّ بالمطعم،
وهو لباس يناسب الموضة "حجاب مودرن" مخالف للضوابط الشرعية، لكنّه لباس يُراعي
تكتيكيّاً الحجاب. وأيضاً لا تمانع الجامعات الأميركيّة والغربيّة دخول المسلمات
إلى الجامعات للدراسة، لا بل ترحّب، لأنها ستتمكّن من تمرير القيم الليبراليّة
البروتستانتيّة إلى عقولهنّ وقلوبهنّ.
* العلمانيّة الأميركيّة الجديدة
وبناءً عليه، ترسّخت العلمانيّة البنيويّة الأميركيّة، التي صاغها الرئيس الأميركيّ
السابق "جيفرسون" بعد دمجها مع البروتستانتيّة الأميركيّة، والتي تقوم على فصل
الدين ممثّلاً بالرموز والسلوكيّات الدينيّة والتقاليد الخاصّة بالأديان والمؤسّسات
الدينيّة (والحجاب نموذج لفرائض هذا القسم من الدين) عن نمط الحياة الأميركيّ وعن
مؤسّسات الدولة والعلوم الاجتماعيّة الأميركيّة.
وهكذا يمكن للمسلمة أنْ تجمع بين نمط "الحجاب المودرن" وبين "القيم الليبراليّة
والعلمانيّة البنيويّة الأميركيّة في السلوك والأفكار والقيم"، وهذا هو نموذج "الإسلام
الأميركيّ" وفْق تعبير الإمام الخمينيّ قدس سره.
* خاتمة
ممّا لا شك فيه أنّ الغرب يحارب الحجاب الإسلاميّ بطرق وتكتيكات مبتكرة في محاولة
لتفريغ الحجاب -بما يمثّل رمزياً- من مضمونٍ ومنظومةٍ حقوقيّة وقيميّة وسلوكيّة
للمرأة، ويسعى لتقديم مفهوم "تمكين المرأة أولاً" وقبله كان مفهوم "تحرير المرأة"
الذي راج مع الاستعمارَيْن الفرنسيّ والبريطانيّ، باعتباره يجذب المرأة نحو نيل
حقوقها وتمكينها، وفي مرحلة لاحقة هي مَن تختار خلع الحجاب بعد خلعه من عقلها
وقلبها.
1-
gender، كلمــة أجنبيـــة تعنــي النــوع الاجتماعي، ومفاده إلغاء أشكال التمييز
بين الجنسين، والنظر إليها كشكل اجتماعي واحد.
2- عبد الوهاب المسيري، بين العلمانية الجزئية والشاملة (كتاب من جزئين)، ومنشور في
مقال موجز على موقع قناة الجزيرة:
http://www.aljazeera.net/knowledgegate/opinions/2007/2/8
3- تقرير حول مقابلة مع هيلاري كلينتون على قناة أم بي سي (MBC1) نشر تحت عنوان "هيلاري
تؤيــد حــرية المرأة في ارتداء الحجاب" في صحيفة الرياض، بتاريخ 16/11/2011م،
العدد 15546.