من الآداب القلبيّة "حضور القلب"، الذي يمكن أن يكون
مقدّمة لكثيرٍ من الآداب أيضاً، والعبادة بدونه ليس لها روح، وهو بنفسه "مفتاح"
الكمالات وباب من أبواب السعادات، وقلّما ذُكر في الأحاديث الشريفة شيء بمثابته،
وقلّما اهتمّ بشيء من الآداب كهذا الأدب. ونحن نذكر في هذا المقام شيئاً منه،
فنقول: كما ذكرنا سابقاً، إنّ من أسرار العبادات وفوائدها أنْ تتقوّى إرادة النفس
وتتغلّب النفس على الطبيعة، وتكون القوى الطبيعية مسخّرة تحت قدرة النفس وسلطنتها،
وتكون الإرادة الملكوتيّة نافذة في ملك البدن بحيث تكون القوى بالنسبة إلى النفس
كملائكة الله بالنسبة إلى الحقّ تعالى، ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ﴾
(التحريم: 6)، ﴿وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ (الأنبياء: 27).
* نفسٌ مرتاضة بعبادة الله
إنّ من أسرار العبادات وفوائدها المهمّة أنْ تكون مملكة البدن، ظاهرها وباطنها،
مسخّرة تحت إرادة الله، وأن تكون القوى الملكوتيّة والمَلَكيّة للنفس من جنود الله،
فتكون النفس مرتاضة بعبادة الله، فتَهزم جنود إبليس وتنتهي، ويكون القلب مسلّماً
بكلّ قواه للحقّ، وتكون نتيجة هذا التسليم لإرادة الحقّ في الآخرة أنّ الحقّ تعالى
يُنفّذ إرادة صاحب هذا القلب في العوالم الغيبيّة، ويجعله مثلاً أعلى لنفسه تعالى.
فكما أنّه تعالى وتقدّس يوجد كلّ ما أراد بمجرّد الإرادة، فإنّه يجعل إرادة هذا
العبد أيضاً كذلك، كما رواه بعض أهل المعرفة عن النبي P في وصف أهل الجنة: "فلا
يقول أحد من أهل الجنّة للشيء كنْ إلّا ويكون".
* نورٌ يهدي وزاجرٌ ينهى
وهذه السلطنة الإلهيّة التي أُعطيت للعبد هي لأجل تركه إرادةَ نفسه وتركه سلطنَةَ
الهوى النفسانيّة، وتركه إطاعةَ إبليس وجنوده. ولا يحصل كلّ من هذه النتائج
المذكورة إلّا بالحضور الكامل للقلب، فإذا كان القلب في وقت العبادة غافلاً وساهياً
فلا تكون عبادتُه حقيقيّة، بل تشبه اللّهو واللّعب، ولا يكون لمثل هذه العبادة أثر
في النفس البتّة، ولا تتجاوز من الصورة والظاهر إلى الباطن والملكوت، كما أُشيرَ
إلى ذلك في الأحاديث.
ولذا ترون أنّه بعد مضيّ أربعين أو خمسين سنة لا يحصل أثر في أنفسنا، بل تزداد
يوماً فيوماً ظلمةُ القلب، وتعصي القوى، ويزيد اشتياقنا إلى الطبيعة وإطاعتنا
الأهواء النفسانيّة والوساوس الشيطانيّة آناً فآناً، وليس هذا كلّه إلّا من جهة أنّ
عبادتنا قشور بلا لبّ، وفاقدة للشرائط الباطنيّة والآداب القلبيّة، في حين نرى أنّ
كتاب الله سبحانه قد نصّ على أنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهذا النهي ليس
صوريّاً أبداً، بل لا بدّ من أن يزهر مصباحٌ في القلب، ويضيء نورٌ في الباطن، يهدي
الإنسان إلى عالم الغيب، ويوجد زاجرٌ إلهيٌّ ينهى الإنسان عن العصيان والتمرّد،
ورغم أنّنا نحسب أنفسنا في زمرة المصلّين، وقد مضت علينا سنون ونحن منشغلون بهذه
العبادة العظيمة، ومع ذلك لا نرى في أنفسنا هذا النور، ولا نجد في باطننا هذا
الزاجر والمانع. فالويل لنا يوم نعطى صور أعمالنا وصحيفة أفعالنا في ذلك العالم
بأيدينا، ويقال: ﴿كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ
حَسِيبًا﴾ (الإسراء: 14).
فإنّ ذلك العالم هو يوم بروز الحسرة والندامة كما قال تعالى:
﴿ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ
الْأَمْرُ﴾ (مريم: 39). فالأمر المنقضي لا يُجبر، والعمر التالف لا
يُستعاد، فواحسرتاه على ما فرّطتُ في جنب الله.
* اليوم إمهالٌ وعمل
فيا أيّها العزيز: اليوم يوم الإمهال والعمل، وقد جاء الأنبياء، وأتوا بالكتب،
ودعوا بدعوات، وتحمّلوا الآلام والشدائد، كي يوقظونا من نوم الغفلة، ويُنبّهونا من
سُكر الطبيعة، ويوصلونا إلى عالم النور ونشأة البهجة والسرور، ويُنجونا من الهلاك،
والشقاوة، والنار، وكلّ ذلك لأجل أنفسنا؛ ومع ذلك ما أثّرت فينا دعوتهم، وقد أخذ
الشيطان بمسامعِ قلوبنا، وتسلّط على باطننا وظاهرنا، بحيث لم يؤثّر فينا من مواعظهم
أيّ أثر...
فيا أيّها القارئ العزيز، انظر بدقّة في حال الأنبياء والأولياء الكمّل، وارمِ
الرغبات الكاذبة والوعود الشيطانيّة، ولا تنخدع بخدع النفس الأمّارة، فإنّ تدليسات
الشيطان والنفس دقيقة، إنّما ليعميان على الإنسان كلّ أمر باطل فيراه بصورة الحقّ،
ويغرّان الإنسان حينما يأمل التوبة في آخر العمر، وينتهيان به إلى الشقاوة.
(*) كتاب الآداب المعنوية للصلاة، الإمام الخميني قدس سره (الفصل الثامن).