مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

شباب: وقعت حبّات السّبحة

ديما جمعة فوّاز


لا أذكر أنّني رأيت يوماً جدّي ولم تكن حبّات السّبحة الخضراء تتماوج بين أنامله الرفيعة.. كانت بفرادتها جزءاً من شخصيّته، تلك الحُبيبات الشفافة التي كلّما تعرَّضت للضوء تضيء بأسماء الله الحسنى. كان امتلاكها بمثابة حلمنا منذ الطفولة، ورغم ذلك فإنَّ أيّاً منّا لم يملك يوماً شرف لمسها..

كانت صديقه المرافق. وإذا أحبَّ أن يُلاعبنا، كان يوهمنا أنّه أضاعها فننهمك بحثاً عنها، وبعد بعض الوقت يغمزنا صائحاً أنّه وجدها في جيب عباءته العلويّ أو تحت طربوشه أو حول زنده فيضحك هامساً لها: "سامحكِ الله.. شغلتِ صغاري في البحث عنكِ، وأنت مختبئة هنا!" فنملأ الغرفة قهقهات طفوليّة بريئة. وعند الأذان، حين يتّجه نحو المسجد، كنّا نهرول خلفه ونتنافس على تقليد مشيته: نضع أيدينا خلف ظهورنا ونشبكها معاً، ثمّ نقوم بتحريك أناملنا كأنّنا نسبّح.

ومن أبرز الذكريات التي لا أنساها، حين تحلَّقنا حوله، ذات مساء، وسألناه عن السرِّ الذي تُخفيه تلك السّبحة، فهمس لنا أنّها بمثابة عصاه السحرية التي تُحوِّل المستحيل إلى ممكن، وتُنفِّذ الطلبات. وليُثبت لنا ذلك سبَّح بها متمتماً ثمّ أوعز لها أنّه يريد حبّة رمّان حمراء، وما هي إلّا دقائق حتى اقتربت منّا جدّتي حاملة حبّة رمان قانية وضعتها أمامه مع سكّين، ولم تفهم سبب تفاجئُنا حين بدأنا نصيح "مستحيل! مستحيل!"، فرمقتنا بغضب في الوقت الذي ابتسم لها تودّداً، ونظر إلينا بعينين تشعّان فخراً..
ومرَّت الأعوام، وتدهور وضع جدّي الصحّيّ. وبنظراته الذابلة صار يحاول جاهداً أن يذكر أسماءنا، وكنت أتعجَّب كيف لم ينسَ إمساك سبحته، ولم يتوقّف عن الذِّكر والتسبيح بها رغم ما أصابه من هَرَم وضعف في الذاكرة! كنت أغبطها على مرافقته دوماً، فقد أخبرتنا جدّتي أنّه منذ عشرات الأعوام يجمع سبحته في قبضته مساءً ويدسّها تحت مخدَّته لتكون أوّل ما يُمسك به فور الاستيقاظ صباحاً فلا تفارقه سوى عند النوم..

وذات صباح حزين.. لم يستيقظ جدّي! خبر رحيله آلمنا جميعاً. وبعد إتمام مراسم الدفن توجّهت العائلة إلى منزله، فاغتنمت فرصة انشغالهم ودخلت غرفته خلسة عن الجميع، كنت أريد أن أكون السبّاق في الإمساك بجوهرته الثمينة. أغلقت خلفي الباب بهدوء.. ودسست يدي بخشوع تحت المخدّة.. وللمفاجأة وجدت حبّة واحدة من السّبحة! فبدأت كالمجنون أبحث عن بقيّة حبّاتها في الغرفة وتحت السرير..
فجأة سمعت همهمة عند عتبة الباب، أخفيتُ الحبّة في جيبي.. وإذ بأبناء أعمامي وعمّاتي يدخلون واحداً تلو الآخر إلى الغرفة وجميعهم يتحدّثون عن رغبتهم في رؤية تلك السّبحة والإمساك بها.

وبينما كنّا نُحلِّل أين يمكن أن تكون، دخلت جدّتي الغرفة وهي تسمع كلامنا. اقتربتْ من المنضدة قرب السرير وفتحت الجارور لتُخرج علبة خشبيّة قفزت عيوننا جميعاً إلى داخلها ووجدنا حبّات السّبحة الخضراء قد انفلتت، فصحنا معاً: "كيف؟ ماذا حصل لها؟". تمتمتْ بعد تنهيدة عميقة: "ليلة أمس كان يُحرّكها بين أنامله كالمعتاد فتمزَّق الخيط وتناثرت حبّاتها أرضاً، فحزن كثيراً، وبدأنا نبحث عن حبّاتها المبعثرة.. وبعد أن أنهكنا التعب عَدَدنا الحبّات التي جمعناها فوجدنا أنّها تنقص واحدة فقط.. ولكنّه لم ييأس وفور استيقاظنا لأداء صلاة الفجر، كرَّر البحث عنها. أمّا أنا فغلبني النعاس وغفوت بينما كنت أرجوه أنْ ينام وهو استمرَّ يُردِّد: "لن أنام قبل أنْ أجدها!" وابتلعت غصّتها لتردف بأنين: "ولا أعتقد أنّه وجدها!". همستُ بصوت متقطِّع: "كلّا يا جدّتي، لقد وجدها!". حملق جميع الموجودين بي بينما أخرجت تلك الحبّة متمتماً: "كانت آخر ما لمسَتْه يد جدّي قبل أنْ يغفو.. ولا زلت أشعر بحرارة قلبه السعيد وأصابعه الضعيفة التي ضغطت عليها بعد أن وجدها ودسَّها تحت مخدّته.. وغفا!".

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع