توضّأ بسرعةٍ، فأصابته طمأنينة يحسها كلما فرغ من وضوئه..
لقد كان عمله بحيث أن الوضوء يعدّ أحياناً من أصعب الأشياء خلاله! فصحيح أن حكمه
الشرعي كان خلال مهماته الاستطلاعية هو التيمم بسبب الأوامر الصارمة بعدم استعمال
الماء إلا في الشرب وبعدم الوضوء خشية من أن يرتبك بسبب اضطراره إلى أن يخلع حذاءه
العسكري ذا الشريط الطويل... ولكنه كان يحب أن يتوضأ وأن يصلّي عن وضوء..
لذلك، وفيما كان يبادر إلى
تجهيز نفسه مع بقية أفراد المجموعة كان يشعر بالفرح يغمر قلبه... لقد أنجز أمراً
مهماً يساعد نفسه على الاستقرار والطمأنينة.. فقد توضأ...
في عتمة الليل، وقد غاب القمر في إحدى ليالي الشتاء الباردة التي كانت تصافح
بنسماتها صفحات الوجوه الدافئة كانت المجموعة تأخذ طريقها عبر المسالك الجبلية
الوعرة وأقدام المجاهدين تنتقل بخفةٍ من صخرةٍ إلى صخرةٍ وقد تباعدت المسافة في ما
بينهم... تقف تارةً وتمشي أخرى، لا تكاد تسمع القدمُ اليسرى أيّ احتكاك للقدم
اليمنى بالصخور أو بالأشواك... فكأنها أقدام قطط ليلية تتسلّل إلى جحور جرذان تريد
التهامها..
كانت الأوامر واضحة وصارمة لا تقبل التهاون: مهاجمة موقع (....) واقتحامه وتدميره، وقد تم
تنسيق خطط الإسناد الناري بين قيادات المجموعات المختلفة... وإلى أن تصل المجموعة
إلى الموقع المعادي داخل المناطق المحتلة يمنع إطلاق النار خلال المسير إليه على أيّ
هدف آخر إلا في حالة الدفاع القصوى عن النفس وفي صورة انكشاف المجموعة ولذلك كانت
الحمولة متفجرات ومضادات للدروع وأسلحة خفيفة ومتوسطة ومناظير ليلية وتموين وقرب
ماء...
لم يكن الوصول صعباً، فالطرق الجبلية والصخور بأحجامها المختلفة وشجيرات البلوط
بأماكنها وكثافاتها والمنحدرات بكل ارتفاعاتها.. كل ذلك كانوا قد حفظوه عن ظهر قلب
كما يحفظون سورة الفاتحة... فإذا بهم ينتقلون من صخرةٍ إلى منحدرٍ إلى مرتفعٍ كما
ينتقلون في غرفة نومهم المظلمة...
ولكن أصوات المجنزرة التي كانوا يسمعونها قبل قليل اقتربت إلى الحد الذي جعل قائد
المجموعة يعطي إشارة الحذر.. وكنمورٍ يقظةٍ ربضوا في أماكنهم متباعدين عن بعضهم
البعض...
إلاّ أن المجنزرة اقتربت كثيراً جداً منهم وكادت أضواؤها تكشفهم وحرارة محركها تلفح
وجوههم التي تموّهت بأشجار البلّوط وجبوب العلّيق.. وتبيّن لهم أنها
دبابة ميركافا بعد أن توقفت على بعد ثلاثة أمتار منهم، ثم ظهرت خلفها سيارة جيب
عسكرية انعطفت عنها وتوقفت إلى جانبها.
لقد كانت الدبابة والجيب هدفاً مغرياً ولكن الأوامر صارمة بعدم البدء بإطلاق النار
على أيّ هدفٍ آخر غير الهدف الذي حددته القيادة..
كان مربضه تحت جبّ العلّيق، والدبابة توقفت مع الجيب على بعد ثلاثة أمتار منه فكان
أقرب رفاقه إليها، وبعينيه اللامعتين أخذ يراقبها بحذر بالغ ويده على الزناد وقد
انتظمت أنفاسه بهدوء، لقد كان مطمئناً إلى مر بضه خلف جبّ العلّيق الكثيف الذي نما
إلى جانب الطريق...
وفجأةً ترجّل سائق الجيب بهدوء وكان مطمئناً جداً وكأنّه لا يوجد أحد غيره... بينما
كانت العيون تعدّ حركاته وتراقبه.. ولكنه اقترب من جبّ العلّيق وسط دهشة الطاهر
المتوضئ وحيرته حتى وقف فوق الجب تماماً..
وهنا فوجئ صاحبنا.. إن هذا النجس يريد أن يبول!!.
وأين؟ فوق جب العلّيق والطاهر تحته تماماً..!!
أصيب بدهشة وارتباك لم يعهدهما في حياته الجهادية، وأخذ عقله وقلبه يعملان معاً
وفي لحظات متسارعة، تارة يغلب القلب وأخرى يغلب العقل...
هل يطلق النار عليه ليمنعه من تنجيسه فيكشف المجموعة!؟.
أم يدعه ينجّسه مع ما في ذلك من مخاطر على طهارته وصلاته حتى يحافظ على مهمة إتمام
عمل المجموعة؟!.
هذا الكلب النجس الذي هو بذاته نجاسة عينية.. أيدعه يلوثه؟!.
وهنا فضّل الانصياع وطاعة
الأوامر الصارمة وعدم إطلاق النار عليه... ولكن شيئاً من ذلك لم ينفع فإن اليهودي
لمح صاحبنا رابضاً تحته تماماً ففغر فاه وجحظت عيناه وأزمع على الصراخ.. وهنا
انتقلت الأوامر وبأسرع من لمح البصر أو هي أقرب وكأنها إرادة الله تعالى من القلب
إلى الإرادة إلى اليد إلى الأصابع إلى الزناد فانطلقت رشقة طاهرة من مدفع المتوضئ
إلى أحشاء اليهودي النجس وصدره فارتمى يتخبّط بدمه فوق جبّ العلّيق وقبل أن ينبس
ببنت شفه..
لم تأت الدبابة بحركةٍ فالرماية خارجها بأمتار ولا شيء واضحاً لها..
أما الجيب فقد بادر الرجال إلى تمزيقه بسيلٍ من القنابل بدون ترددٍ أعقبها رشقات
طويلة مزّقت ما بقي بعد القنابل من أجساد المعتدين..وفي عتمة الليل كانت المجموعة
تنجز عملية تدمير الدبابة التي وقفت صامتةً كقبر فولاذي فلم يخرج من طاقمها أحد
وكأنهم قد امتلؤوا رعباً...وعلى هدي النور المنبعث من
النيران التي اشتعلت فيها انسحبت المجموعة عائدة.. فسوف تأتي النجدات بعد قليل
وتمتلئ المنطقة بالكشافات والأعداء...
كانوا يعودون بصمت كما أتوا... لم يفهم قائد المجموعة ما الذي جرى وما الذي دفع
صاحبنا لأن يبادر إلى إطلاق النار.. فلا مجال الآن للكلام.. ولكن هناك وبعد أن
استأمنوا واستقروا سألوه فحدّثهم بما جرى فخرجت من أفواههم ضحكات هادئة تعبّر عن
الرضا بالنتيجة.. فلم تكن العملية فاشلةً، بل كان تدمير الدبابة والجيب وقتل من
فيهما فيه ما يعوّض عن الهدف...
وفيما كانوا يصلون تباعاً إلى مواقعهم كانت مجموعة الإسناد تتلقى حائرةً برقيات
تأجيل العملية.
(*) من كتاب (قصص الأحرار) للشيخ كاظم ياسين.