ربما لستَ طائراً، ولكنّك تعشق الانسياب، كأوراق الخريف
المتطايرة هنا وهناك، كأشعّة الشمس المتغلغلة بين أغصان الأشجار، كذاك البرق الذي
يخترق عباب السماء وينذر بالمطر والخير، كنسمة عذبة في صباح صيف تتحدّى الحرارة
المرتفعة.
هل تعتقد فعلاً أنّ الطيور وحدها تحلّق في السماء؟!
إذاً، ما هو تفسيرك لذاك الحلم الذي يراودك ليلاً، ويسرقك إلى اللامكان واللّازمان؛
لتسير حافي القدمين على الأنهار المتدفّقة، ثمّ تقفز من جبل إلى آخر، تداعب النجوم
وتُسامر القمر.
ألا تعرف أنّك كالطيور، تُحلّق في السماء؟
حين تحبّ وتشتاق، فتغمض جفنيك مستسلماً لنبضة القلب، تتحرّر من الجاذبيّة، وبنفس
عميق تحطّم كلّ المعقول، وتتلاشى حولك الصعاب فيقودك الإحساس إلى محضر الحبيب في
أيّ بقعة من الأرض.
ليست كلّ الطيور حرّة، بعضها رهين قفص حقيقيّ، أو وهميّ.
بعضها ما ينظر إلى العالم من خلف القضبان الحديديّة، ويكتفي بالقفز متألّماً من جهة
إلى أخرى.. وربّما يموت في ذاك السجن الانفراديّ، دون أن يعرف يوماً معنى الحريّة..
بعضها يقبع في العشّ، يتأمّل رفاقه يحلّقون، فيما هو يخشى مواجهة قانون الجاذبيّة،
يظنّ نفسه محبّاً للحياة، ولكنّه في الحقيقة مستسلم للموت البطيء!
في المقابل يتمتّع بعض الطيور بامتيازات يتمنّاها بنو البشر، حيث يقطن أقدس الأراضي
ويمتلك شرف التحليق فوق أعظم الأماكن.
أسمى الطيور هي تلك التي تحلّق فوق باحات المقامات المباركة، فوق قبّة ذهبيّة في
النجف أو راية سوداء في طهران، أو على كتف مجاهد يسهر أمام مقام السيّدة زينب عليها
السلام فتغفو عيونها مدركةً أنّ عينيه تحرسان الكون حولهما.
أسمى الطيور تلك التي تجتمع كلّ صباح في باحة مسجد في الكوفة أو سامرّاء أو السهلة،
أو تلك التي تطوف سبعاً حول الكعبة الشريفة، وفوق الأضرحة المهضوم حقّها في البقيع.
ولكن، هناك طائرٌ وحيد تغبطه جميع الكائنات، فهو أدرك لغز الوجود، وامتلك مفتاح
اليقين. ها هو يرفرف بحياء فوق بقعة مجهولة، يحرّك جناحيه حذراً من أن يثير حوله
الغبار فيكشف السرّ.. وحده يسبّح بآيات العشق المكتومة، ويرمي بنظره إلى الآفاق..
ويتمتم: "متى تنجلي تلك الحقيقة وينكشف الغطاء؟ متى تجتمع حولي أسراب الطيور لتحلّق
معي فوق ضريح الزهراء عليها السلام"!
ذاك الطير وحده يُحلّق بين الجنّة والأرض..