سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)
النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم رسول الإسلام، يؤمن
به جميع المسلمين، وأفعاله ومواقفه حجّةٌ عليهم جميعاً. من هذا المنطلق، يمكننا
الاستفادة من مواقف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والبناء عليها في ما يخصّ
تكليفنا قبال الأحداث والظروف التي تواجهنا، لنرى أنّنا نسير في الاتّجاه الصحيح أو
لا.
* المدينة مستقَرُّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أهل مكّة، وعاش أغلب حياته فيها، إلّا
أنّه عاش السنوات العشر الأخيرة من عمره الشريف في المدينة المنوّرة. وحتّى بعدما
فتح مكّة التي أصبحت تابعة ومطيعة للإسلام والحكومة الإسلامية، لم يبقَ صلى الله
عليه وآله وسلم فيها، وإنّما عاد إلى المدينة.
والسؤال الذي يُطرح هنا: لماذا عاش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقيّة حياته
في المدينة على الرغم من أنّ هواه وقلبه وصباه وشبابه كانت كلّها في مكّة، فضلاً عن
أنّ مكّة فيها المسجد الحرام والبيت الحرام، ومع ذلك يفضّل النبيّ صلى الله عليه
وآله وسلم العودة إلى المدينة، ويقضي بقيّة عمره الشريف فيها، ويتوفّى ويُدفن فيها؟
* رسالة لكلّ الناس
لقد بعث الله سبحانه وتعالى محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً إلى البشرية
جمعاء، بدءاً من أهل مكّة (أمّ القرى) وما حولها،
﴿وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ (الأنعام: 29). وقد
كانت مكّة، باعتبارها أمّ القرى، مركزَ شبه الجزيرة العربية، ولها مكانتها الدينية،
والسياسية، والتجارية، والاقتصادية، والمعنوية، ومنها حُمِّل النبيّ صلى الله عليه
وآله وسلم مسؤوليّة تبليغ الرسالة الإلهيّة الخاتمة لكلّ الإنسانية، وكلّ البشرية،
وللزمان كلّه، منذ بعثه الله إلى قيام الساعة. وهذا يوجب على عاتقه صلى الله عليه
وآله وسلم مسؤوليةً خاصّةً، وتكليفاً خاصّاً بتحمُّل الرسالة بعقيدتها، وقيمها،
ومفاهيمها، وأحكامها الشرعية وبكلّ ما فيها، وتبليغها إلى الناس، وتثبيت أسسها،
وأصولها، ومبانيها، وقواعدها؛ لتستمرّ بعد وفاته؛ لأنّ هذا الدين وهذه الرسالة التي
كُلِّفَ بتبليغها هما دينٌ ورسالةٌ للبشرية جمعاء إلى قيام الساعة.
* كمالٌ على قدر المسؤوليّة
إذاً، لا شكّ في أنّ هذه المسؤولية العظيمة والضخمة تستلزم أن يكون النبيّ صلى الله
عليه وآله وسلم حائزاً على المواصفات الشخصيّة ما يؤهّله للقيام بها؛ إذ الله
سبحانه وتعالى لا يكلّف الإنسان إلّا ما يطيق ويسع، فكيف بالنبيّ؟! وعليه، لا يمكن
أن يلقيَ الله على عاتق نبيّ مسؤوليّةً بهذه العظمة، وبهذا الثقل، وهو لا يملك
المواصفات الشخصية، والقدرات العقلية، والروحية، والعاطفية والنفسية التي تمكّنه
وتؤهّله لحملها؛ لذا، فقد كانت المواصفات كلها موجودة في هذا النبيّ، ولديه أعلى
مستوى من الإيمان، واليقين، والعلم، والمعرفة، والوعي، والشجاعة، والصبر، والقدرة
على التحمّل، والاستعداد للتضحية، والثبات، والحزم، والعزم، وفي الوقت نفسه حُسن
الخُلق، ولين الجانب... وغير ذلك من الصفات التي اختصرها الله سبحانه وتعالى بقوله
لنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى
خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (القلم: 4). لقد كان إنساناً كاملاً.
* تبليغ الرسالة
كان على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يبدأ بتبليغ الرسالة. والوصول إلى الهدف
البعيد من الرسالة، كان يتطلّب التدرّج؛ ومراعاة مجموعة ضوابط وأصول، كظرف الزمان،
والمكان، والصديق، والعدوّ، والقدرات، والإمكانات، والفرص، والتهديدات. وكلّ هذه
الظروف تؤخذ بالاعتبار عندما يُحدَّد التكليف الشرعيّ أو الوظيفة الشرعيّة؛ إذ لا
يوجد في الإسلام "الغاية تبرّر الوسيلة" بالمطلق. إذاً، ذهب النبيّ صلى الله عليه
وآله وسلم في بداية الدعوة (السريّة) إلى التدرّج في مرحلتين:
المرحلة الأولى: الدعوة الفرديّة
كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم -في هذه المرحلة- يتحدّث مع كلّ فرد على حدة،
ويعرض عليه الإيمان به، فتحدّث صلى الله عليه وآله وسلم مع شخص السيدة خديجة عليها
السلام، فآمنت به، ومع شخص الإمام عليّ عليه السلام، ومع فلان وفلان... هذه
المرحليّة والتدرُّج سُنَّةٌ إلهيّة طبيعيّة في كلّ شيء، وقد أفرزت مجموعة أفراد
مؤمنين برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبنبوّته، وبدعوته وبإسلامه.
المرحلة الثانية: وأنذر عشيرتك الأقربين
كانت دعوة بني هاشم، ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ
الْأَقْرَبِينَ﴾ (الشعراء: 214). كان بنو هاشم عائلة كبيرة ومحترمة
ومقتدرة في قريش، وفي مكّة، ولهم وجاهةٌ ومكانةٌ معنوية كبيرة، وفيهم أغنياءٌ
وأقوياء تخضع لهم مكّة، وتحتكم إليهم، كأبي طالب عليه السلام والد أمير المؤمنين
عليه السلام، وفيهم رجالٌ شجعانٌ كحمزة بن عبد المطلّب، وفيهم -أيضاً- أمثال أبي
لهب.
* الدعوة العلنيّة
بعد دعوة الأقربين، بدأت الدعوة بالانتشار، وأصبحت علنيّة، ليقف النبيّ صلى الله
عليه وآله وسلم داعياً أهل مكّة وقريشاً، وبعدهم جميع القبائل والوفود التي كانت
تأتي إلى مكة، للحجّ أو للتجارة؛ إلى الإيمان به مبيِّناً لهم رسالته.
وقد حدث هذا بعد حوالي 3 سنوات من بداية الدعوة، لا بعد أسبوع أو أسبوعين، أو شهر
وشهرين؛ أي أنّه صلى الله عليه وآله وسلم انتقل إلى المرحلة العلنية الواسعة
بالتدريج.
* سلميّة التحرُّك
كان السلوك العامّ للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والذين آمنوا معه في المرحلة
المكيّة كلّها يتّسم بالسلميّة؛ مستخدماً الدعوة، والحوار، والنقاش، والجدال بالتي
هي أحسن؛ فنراه يبيِّن، ويوضِّح، ويطرح المنطق، والاستدلال، بالوسائل المُتاحة له
في ذلك الزمان.
* مواجهة الدعوة بالعنف
واجهت قريش الحركة النبويّة السلميّة في مكة بالشتائم والإهانات، وصولاً إلى القمع،
والتعذيب والتشريد والقتل، بل ومصادرة الأموال، ثمّ تهجير المسلمين إلى الحبشة،
وبعدها محاصرة بني هاشم في شِعاب مكّة لسنوات، ومنع وصول الأكل والشرب إليهم، وقطع
العلاقات التجاريّة معهم، ومنع الزواج منهم ولهم، ومنع العلاقات الاجتماعية، حتّى
التواصل والزيارات واللقاءات. لقد كانت مقاطعة كاملة!
هذه المقاطعة كانت متوقّعة؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يسعى إلى
إحداث تغيير شامل، في الموضوع العقائديّ، والأخلاقيّ، والاجتماعيّ، وفي التقاليد
والعادات، والمعايير والسلطة السياسية، وكذلك في الأحكام والقوانين التي تحكم حياة
الناس؛ لذلك، كان من الطبيعيّ أن يجد صدّاً عنيفاً من الإقطاع الدينيّ الذي كان
يعيش على تجارة الأصنام، ومن الإقطاع السياسي الذي كان يعيش أيضاً على الزعامة
الوراثية والقبلية والعشائرية، ومن بيئة ثقافية كان يناسبها ما كان قائماً من قيم
وعادات وتقاليد.
لقد جاء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ليقول لهم: "إنّ هذه الأصنام -التي كانوا
يعبدونها منذ مئات السنين- لا قيمة لها، لا تضرّ، لا تنفع، لا تحيي، لا تميت، ولا
تستطيع أن تدافع عن نفسها، أنتم من صنعها، وأنتم من أوجدها..." فاعبدوا الله الواحد
الأحد. وذلك لم يكن أمراً سهلاً، على الرغم من امتلاك دعوة التوحيد النبوية منطقاً
قويّاً جدّاً.
إذاً، لقد واجهت قريش النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، واصطدمت معه، مع العلم أنّها
هي من بدأت المواجهة المسلّحة معه صلى الله عليه وآله وسلم، فآذته، وعذّبته،
وحاصرته، واستخدمت السيف، وقتلت من أصحابه والمؤمنين بنبوّته ورسالته صلى الله عليه
وآله وسلم، ولكنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان تكليفه في المرحلة المكيّة
-التي امتدّت إلى 13 سنة- عدم اللجوء إلى المواجهة المسلّحة.
* البقاء مهما أمكن
بقي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في مكّة ما أمكنه البقاء فيها؛ إذ عندما قتلوا
أصحابه كان تكليفه أن يبقى، وعندما هجّروا أصحابه كان تكليفه أن يبقى، وعندما
حاصروه في الشِّعاب، وعرّضوه ومن معه للجوع والعطش والحصار، كان تكليفه أن يبقى
ويبقى... إلى أن وصل الأمر بهم إلى تواطئهم وتآمرهم على قتله صلى الله عليه وآله
وسلم! وحيث لم يكن المطلوب منه صلى الله عليه وآله وسلم أن يستشهد في ذلك اليوم، بل
كان عليه أن يكمل حمل الرسالة والمسؤوليّة، فقد أمره الله سبحانه وتعالى بالخروج
إلى المدينة، والتي كان قد أسلم بعض أهلها وأسّسوا فيها "بيئة حاضنة" للإسلام
ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فخرج صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، وانتهت
بذلك المرحلة المكيّة.
لقد أدّى النبي صلى الله عليه وآله وسلم تكليفه الإلهيّ بالبقاء في مكّة
المكرّمة، والصبر على الأذى في جنب الله، حيال مضايقات قريش الاستفزازيّة والقاسية،
أمّا بعد هجرته صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنوّرة فنرى تحوُّلاً
-تدريجيّاً أيضاً- في مواجهة قريش واليهود، ضمن ظروف مختلفة عمّا كانت عليه في
مكّة، التي سنعرضها في العدد القادم.
(*) من محاضرة عاشورائية، ألقاها سماحته أول ليلة من شهر محرم الحرام من العام
الحالي 1439هـ الموافق 21/9/2017م.