الإمام الخميني قدس سره
وحيث اتضح لنا أن الطهارة الحقيقية هي طهارة الباطن، وأن
الهدف من وراء التطهير تطهير القلب، سنتحدث عن مراتب هذه الطهارة ودرجاتها.
يبين الإمام الخميني قدس سره طرفي الطهارة، فهو يذكر أعلى مراتبها، ويشير إلى
الخروج التام عنها. وإذا علمنا هذين الطرفين نستطيع أن نتصور - ولو بشكل إجمالي -
المراتب التي تندرج ضمنها.
ولكي يوصل الإمام الفكرة المركزية لفي هذا البحث، فإنه يذكر مجموعة من المقدمات
المهمة بطريقة لطيفة وسهلة.
أولها: إن الإنسان
ما دام في عالم الطبيعة الذي هو أدنى العوالم فإنه يتعرّض للتصرفات الملكوتية من
جهة والتصرفات الملكوتية الإلهية هي جنود الرحمة والسلامة والسعادة والنور والطهارة
والكمال. أما التصرفات الإبليسية فهي جنود لما يقابل الرحمة وغيرها من الأنوار
والكمالات. وهذا يعني أن الإنسان طالما هو في هذه الدنيا يكون مختاراً مريداً
يستطيع أن يسلك طريق الملكوت أو سبيل إبليس وجنوده.
يقول الإمام قدس سره: "اعلم أن الإنسان ما دام في عالم الطبيعة ومنزل مادة
الهيولانية، فهو تحت تصرفات جنود إلهية وجنود إبليسية. والجنود الإلهية هي جنود
الرحمة والسلامة والسعادة والنور والطهارة والكمال، وجنود إبليس مقابلاتها".
ثانيها: إن الجهات
الملكوتية الربوبية غالبة - بحكم كمالها - وأقوى من الجهات الإبليسية التي ليس لها
من الكمال حظ ولا قوة
﴿الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ
كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾. وقد ظهرت هذه الغلبة في أصل خلقة الإنسان ووجوده الذي هو
فطرته. تلك الفطرة التي لا تعرف إلا النور والطهارة لأنها صنع اللَّه وخلقته:
﴿فطرة
الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم﴾. وهذا ما ورد في
عشرات الأحاديث والآيات الشريفة. وهذا الأمر يجعل الإنسان متوجهاً بالأصل إلى النور
والطهارة، وهو بخلاف ما يتصوره البعض من أن للإنسان توجهين واحدة نحو الخير وآخر
نحو الشر مستشهدين على ذلك بالآية الشريفة:﴿وَهَدَيْنَاهُ
النَّجْدَيْنِ﴾.
وهذا اشتباه كبير وتهمة عظيمة للساحة الإلهية حيث نسبوا إليها الشر وجعلوه أصيلاً.
ما دام الإنسان في عالم الطبيعة فهو تحت تصرفات جنود إلهية وجنود إبليسية والأولى
هي جنود الرحمة والسلامة والسعادة والنور والطهارة والكمال والثانية مقابلاتها
فهذه الآية ومثيلاتها تبين أن للإنسان بحكم فطرته وأصل خلقته معرفة أولية بالخير
والشر، وهو مريد مختار، قادرٌ على تمييز القبيح من الحسن.
فالإنسان مؤيّد بفطرة لا
تعرف في توجهها وطلبها إلا الطهارة، يقول الإمام: "وحيث أن الجهات الربوبية
غالبة على الجهات الإبليسية، فللإنسان في مبدأ الفطرة نور وسلامة وسعادة فطرية
إلهية".
وعلى هذا الأساس، يتّضح لنا الدور الخطير الذي يمكن أن يلعبه الإنسان في تكوين
خلقته ورسم مصيره. فإذا خرج من تحت تصرفات إبليس - الذي لا يملك إلا أن يوسوس له -
يرجع إلى الفطرة الصافية التي لا تعرف إلا الطهارة فيصبح طاهراً مطلقاً، ويكون كل
وجوده طاهراً وقواه مطهرة، لا يتصرف فيها إلا الحق سبحانه.
يقول الإمام: "فإذا لم يكن لإبليس من أول فطرة الإنسان إلى آخرها تصرف في فطرته
فهو إنسان إلهي لاهوتي، وهو من قرنه إلى قدمه نور وطهارة وسعادة. فقلبه نور الحق
ولا يتوجه إلى غير الحق، وقواه الباطنية والظاهرية نور انية وطاهرة ولا يتصرف فيها
سوى الحق، وليس لإبليس فيها حظ ولا لجنوده فيها تصرف".
وقد يرث الإنسان فطرة
ملوثة، أو قد تتلوث هذه الفطرة بالبيئة والتربية الأولية. ولكن عليه أن يعلم أن هذا
التلوث وتلك القذارة طارئة وليست من أصل الفطرة - نعوذ باللَّه - وأن اللَّه تعالى
قد زوّده بإرادة التغيير التي تدخل إلى عمق عميق لا يلجه أحد، وتعود به إلى مئات
السنين من التأثيرات السلبية حيث يمكنه التخلص من تلك الآثار بماء التوبة الطاهر
الطهور. وبعبارة أخرى، هذه الفطرة هي وديعة إلهية أعطيت للإنسان خالصة مطهّرة من كل
دنس، ولكنها تلوثت بالوراثة والبيئة وخرجت بهذه الشاكلة التي يظن معها صعوبة أو
استحالة التطهير.
وكنموذج للإنسان الطاهر يذكر لنا الإمام رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم
والمعصومين من آله عليهم السلام الذين وصلوا إلى الطهارة المطلقة حيث خرجوا كلياً
من تصرفات إبليس وجنوده.
"ومثل هذا الموجود الشريف طاهر مطلقاً ونور خالص، وما تقدم من ذنبه وما تأخر فهو
مغفور له، وهو صاحب الفتح المطلق وواجد لمقام العصمة الكبرى بالأصالة وبقية
المعصومين واجدون لذلك المقام تبعاً لتلك الذات المقدّسة وهو صاحب مقام الخاتمية
الذي هو الكمال المطلق، وحيث أن أوصياءه مشتقون من طينته ومتصلون بفطرته فهم أصحاب
العصمة المطلقة بتبعه ولهم التبعية الكاملة".
وبعد أن بين الإمام حقيقة المقام المطلق للطهارة الذي هو الكمال اللامتناهي ذكر لنا
مصاديقه الذين هم أهل بيت النبوة والعصمة. فرسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم
صاحب هذا المقام بالأصالة، وأهل بيته وصلوا إليه باتباعه، لم يخالفوه قيد أنملة
وساروا على نهجه كما أراد، فبلغوا هذا المقام وكانوا قدوة للأنام.
* وماذا حدث للآخرين؟
يقول الإمام قدس سره:
"وإذا تلوث نور الفطرة بالقذارات الصورية والمعنوية، فبمقدار التلوث يبعد
الإنسان عن بساط القرب ويهجر من حضرة الإنس حتى يصل إلى مقام ينطفئ فيه نور الفطرة
كلياً".
فنور الفطرة يتلوث بالقذارات الجوارحية والقلبية، أي بالمعاصي والذنوب والأمراض
الباطنية، ويؤدي ذلك إلى انطفاء هذا النور نهائياً.
* وماذا تكون النتيجة؟
يقول الإمام قدس سره:
"وتصير مملكة الإنسان شيطانية كلها، ويكون ظاهرها وباطنها، وسرها وعلنها تحت
تصرف الشيطان، فيكون الشيطان قلبه وسمعه وبصره ويده ورجله وتكون جميع أعماله
شيطانية".
وهذا تعبير عن الآية الشريفة:
﴿مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾أو
الآية المباركة:
﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ
الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾
.
"وإذا وصل أحد - والعياذ باللَّه - إلى هذا المقام فهو الشقي المطلق ولا يرى وجه
السعادة أبداً".
"وبين هاتين المرتبتين مقامات ومراتب لا يحصيها إلا اللَّه، وكل من يكون إلى أفق
النبوة أقرب فهو من أصحاب اليمين، وكل من كان إلى أفق الشيطان أقرب فهو من أصحاب
الشمال".