الشيخ سامر توفيق عجمي
"وأمّا حقّ ولدك فأن تعلَم أنّه منك، ومُضاف إليك في عاجل
الدنيا بخيره وشرّه، وأنّك مسؤول عمّا وُلّيته من حُسن الأدب، والدلالة على ربّه عزّ
وجلّ..."(1).
الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام
يلاحظ كلّ مربٍّ سواء أكان أباً أم أمّاً أم معلّماً أم قائداً كشفيّاً... إلخ، أنّ
الطفل -خصوصاً في سنّ الخامسة وما بعد؛ وبدافع من فطرة حبّ المعرفة- يطرح مجموعة من
الأسئلة والاستفهامات التي تحمل صبغة "ميتافيزيقيّة" عن الوجود والخَلق والحياة
والموت... فيسأل: مَن خلقني؟ أين كنت قبل أن أُخلَق؟ لماذا مات الطفل فلان؟ إلى أين
نذهب بعد الموت؟ لماذا نتألّم ونتوجّع؟ لماذا خُلِق اللصّ والشّرير؟ لماذا خُلِقت
الظلمة والعتمة؟
لا يحقّ لنا أن نحرم الطفل من حقّه في المعرفة، فنتجاهل أسئلته، أو نُجيبه بأجوبة
مؤقّتة أو خاطئة، بل علينا أن نُجيب عن هذه الأسئلة، وجوابنا عنها هو "التربية
العقائديّة".
* التربية العقائديّة: صحّة نفسيّة
سواء سمّيناها تربية عقائديّة أم لا، فلا مشاحة ولا نزاع في الألفاظ والمصطلحات.
إنّ التربية العقائديّة للطفل تعزّز صحّته النفسية، حيث تمنحه التصوّرات الدينية عن
الحياة الشعور بالأمان والطمأنينة، وتزيل عنه القلق والاضطراب والخوف، لأنّ الدين
يعطي للحياة تفسيراً هدفيّاً.
والشعور الديني الكوني، يُكسِب الطفل أيضاً مجموعة من قيم القوّة في الحياة
والشجاعة والثقة بالنفس نتيجة شعوره بالمعيّة الإلهية. وهذا ما نلمسه في حياة نبيّ
الله يوسف عليه السلام، ذلك الطفل الذي كان في التاسعة من عمره حين ألقاه إخوته في
غيابة الجُبّ، والتقطه بعض السيّارة، فعندما أُخرج من البئر، قال لهم قائل: "استوصوا
بهذا الغريب خيراً"، فقال لهم يوسف عليه السلام: "مَن كان مع الله فليس عليه
غربة"(2).
* منهج الفطرة التوحيديّة
كلّ طفل يشعر في داخله بحسّ الانجذاب إلى قوّة عظمى في هذا الكون، وقد عبّر عنها
القرآن باصطلاح ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ﴾ (الروم:
30). وبذلك تكون وظيفة التربية العقائدية العمل على تفتّح هذه الجذبة
الفطرية نحو الخالق، فلا يكون غرس الإيمان بالله تعالى في نفس الطفل كعنصر خارجيّ
أجنبيّاً عنها(3).
* تنمية العقيدة من الطفولة المبكرة
جعلت النصوص الدينيّة الطفولة المبكرة (3 سنوات)، مبتدأ المرحلة العمريّة لاعتماد
التربية العقائديّة للطفل.
روى عبد الله بن فضالة، عن أبي عبد الله وأبي جعفر عليها السلام، قال: سمعته يقول:
"إذا بلغ الغلام ثلاث سنين، يُقال له: قل: لا إله إلا الله سبع مرات. ثمّ يُترك
حتى يَتُمّ له ثلاث سنين وسبعة أشهر وعشرون يوماً، فيُقال له: قل: محمد رسول الله
سبع مرات. ويُترك حتّى يتمّ له أربع سنين، ثم يقال له: قل سبع مرات: صلّى الله على
محمد وآله..."(4).
* أسلوب التلقين اللفظيّ
ينبغي لنا تعويد الطفل على أن يكرّر بعض الجمل العقائديّة حول التوحيد والنبوة
والإمامة حتّى لو لم يُدرك مدلولاتها، مثل تكرار قول: لا إله إلا الله، أو محمد
رسول الله أو عليّ وليّ الله...، حتّى ترسخ في نفس الطفل ويحفظها عن ظهر قلب،
فإنّها تساهم في تفتّح الحسّ الإيمانيّ بالله تعالى.
وينبغي للمربّي ربط الطفل بالنبيّ والأئمّة عليهم السلام، بالاعتقاد بنبوّة النبيّ
وإمامة أئمّة أهل البيت وحبّهم، وحفظ أسمائهم عليهم السلام.
عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "أدّبوا أولادكم على ثلاث خصال: حبّ
نبيّكم، وحبّ أهل بيته، وقراءة القرآن..."(5).
* البيئة العقائديّة المناسبة للطفل
من أهمّ حقوق الطفل أن يُحسن المربّي اختيار البيئة الحاضنة للنموّ العقائديّ
السليم لشخصيّته، وحمايته من أيّ بيئة تؤثّر سلباً على تصوّراته عن الكون والحياة
والموت والدين و... سواء أكانت بيئة سكنيّة، أم عائليّة، أم مدرسيّة، أم كشفيّة، أم
رياضيّة...، وهذا أحد وجوه ما نفهمه من روايات "الموضع الحسن"(6).
وقد وردت نصوص عديدة عن النبي وأئمة أهل البيت عليهم السلام توضّح هذا المعنى.
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: "ما من مولود إلّا يولد على
الفطرة، فأبواه يُهوّدانه أو يُنصّرانه أو يُمجّسانه...".
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "احذروا على شبابكم(7) الغلاة لا يفسدونهم ..."(8).
وينبغي أن تكون الأسرة المسلمة التي تعيش في الغرب حذرةً في هذا المجال، حيث ينشأ
الطفل في حضن مدارسهم على مفاهيم وتصوّرات تَحرفه عن عقيدته.
* الشعور الفطريّ: لكلّ شيء سبب
على المربّي أن يقوم بتنمية حسّ السببيّة والربط بين الأشياء في نفس الطفل، بأنّ
وراء كلّ ظاهرة مسبّباً ترتبط تلك الظاهرة به ويؤثّر في وجودها، فالدخان أو الإحراق
سببه النار، وحركة أوراق الشجرة سببها الهواء، ثم بالتدريج ينتقل معه من مجرّد
عملية الربط بين الأشياء إلى عمليّة الربط بين خصوصيّات الأشياء وسببها، بمعنى أن
يجعله يدرك أنّ طبيعة الشيء وخصوصيّاته وصفاته تؤشِّر إلى طبيعة المؤثّر في وجود
ذلك الشيء، مثلاً: إذا رأينا خطّاً سيّئاً نعرف أن الكاتب ليس ماهراً، وإذا رأينا
رسماً عادياً نعرف أن الذي رسمه ليس فناناً ماهراً... إلخ. وهكذا يمهّد الاعتقاد
بقانون السببيّة العامّ الطريق بشكل قويّ للإيمان بالله تعالى. وهذا ما نلمسه في
منهج أهل البيت عليهم السلام(9).
* تنمية النزعة الحسيّة التجريبية
إنّ الإنسان بشكل عامّ كائن حسّيّ أكثر منه عقليّاً، فكيف بالطفل؟ "وهذا يعني -على
حدّ تعبير الشهيد الصدر- أنّ الحسّ أقدر على تربية الإنسان من النظر العقليّ
المجرّد، ويحتلّ من جوانب وجوده وشخصيّته وأبعاد مشاعره، وعواطفه وانفعالاته أكثر
ممّا يحتلّ العقل"(10).
وتنمية النزعة الحسّية الاستقرائيّة عند الطفل تعني تعريف الطفل على الكائنات
والظواهر التي تحيط به في عالم الطبيعة والعناصر التي تتكوّن منها، والنظم التي
تحكمها وتربط بين عناصرها وأجزائها بنحو هادف لا أعمى، وأنّ هذه الأشياء قد صمّمها
خالق عالم حيّ قادر مريد وحكيم.
* تدريب الطفل على العبادات
من أساليب تنمية حسّ الإيمان بالله عند الطفل هو تمرينه في سنّ التمييز (7 سنوات
وما بعدها) على الأفعال العبادية كالصلاة وغيرها. يقول الشيخ محمد تقي فلسفي: "قد
لا يفهم الطفل العبارات التي يؤدّيها في أثناء الصلاة، ولكنّه يفهم معنى التوجّه
نحو الله، ومناجاته، والاستمداد منه، بكلّ جلاء. إنّه ينشأ مطمئنّ البال مستنداً
إلى رحمة الله الواسعة وقدرته العظيمة"(11).
* معرفة الحياة بعد الموت
يَكثر أن يسأل الطفل في المرحلة الثانية من طفولته؛ أي منذ سنّ السادسة وما فوق عن
الموت، وأن الميّت أين هو؟ وهل سيعود؟ وكيف نراه؟ من المهمّ أن نقدّم للطفل فكرة
الموت بنحو وجوديّ يرتبط باستمرار مسيرة الحياة، وأن نصوّر له الموت كغروب الشمس في
نشأة، لتشرق هذه الشمس في نشأة أخرى فيها حياة أجمل، وأن الميّت حيّ يرانا ويسمعنا
وبإمكاننا أن نحدِّثه، وأن يزورنا ويطمئنّ على أحوالنا.
ويمكن الاستعانة في تقديم الحياة والموت باستخدام الأسلوب القرآنيّ بالتمثيل الحسّيّ
بصور من عالم الطبيعة، عن كيفيّة نزول الماء من السماء وإحياء الأرض ونباتها به بعد
أن كانت ميتة، ويُعقّب ذلك بقوله: ﴿كَذَلِكَ الْخُرُوجُ﴾(12)،
أو: ﴿كَذَلِكَ النُّشُورُ﴾(13)...
ومن المهمّ أيضاً، تقديم يوم المعاد وعالم ما بعد الموت من خلال تصوير الدنيا
على أنّها مدرسة يقدّم فيها الإنسان الامتحان، وأنّ عالم ما بعد الموت هو يوم حصاد
نتائج الامتحانات والمحاسبة للنجاح والرسوب والثواب والعقاب.
1. من لا يحضره الفقيه، الصدوق، ج2، ص622.
2. ربيع الأبرار ونصوص الأخبار، الزمخشري، ج3، ص5.
3. التوحيد، الصدوق، ص231. لقد سلك أئمة أهل البيت عليهم السلام هذا المنهج في
التربية العقائدية، راجع حوار الإمام الصادق عليه السلام مع الرجل الذي انكسرت به
السفينة في البحر.
4. من لا يحضره الفقيه، (م.س)، ج1، ص281، ح863.
5. الجامع الصغير، السيوطي، ج1، ص51.
6. الكافي، الكليني، ج6، ص48.
7. بعض الروايات وإن كان وارداً في الأحداث أو الشباب، إلّا أنّ فهم عدم الخصوصيّة
قريب جدّاً بالأولويّة القطعيّة؛ لأنّ نفس الطفل أسرع إلى الانفعال.
8. الأمالي، الطوسي، ص650.
9.سئل أمير المؤمنين عليه السلام عن إثبات الصانع، أجاب: "البصرة تدلّ على البصير..
وأثار الأقدام تدلّ على المسير...". بحار الأنوار، المجلسي، ج3، ص55.
10.موجز في أصول الدين، الشهيد محمد باقر الصدر، ص224-225.
11.الطفل بين الوراثة والتربية، محمد تقي فلسفي، ج2، ص150.
12.﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ
وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا
لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ﴾ (ق:
9-10-11).
13.﴿وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى
بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ﴾
(فاطر: 9).