سماحة السيد حسن نصر الله (حفظه الله)
كان الغرض من الحديث عن قصّة آدم عليه السلام وإبليس
[التي سبق الحديث عنها في عدديْن سابقين(1)]، هو الجانب الجوهريّ فيما يتعلّق
بالصراع الذي بدأ في تلك القصة.
وفي الأحداث الأولى من التفاصيل والعِبَر، والدروس، والأسئلة، ما يحتاج إلى أبحاث
طويلة ليست في سياق حديثنا هذا.. ويُطرح الكثير من الأسئلة حولها، مثلاً: إنّ هذه
الجنّة التي كان فيها آدم وزوجه وأُخرجا منها، هل هي في السماء؟ هل هي الجنّة
النهائية أم هي جنّة مخصوصة؟ كم كانت مدة بقائهما فيها؟ ما هي تفاصيل حركة إبليس في
تلك الحادثة؟ أسئلة كثيرة موجودة عادةً -لمن يريد التوسّع في هذا البحث- في كتب
التفاسير، والعقيدة، وفي كتب قصص الأنبياء، ونجدها أيضاً في التحقيقات الحديثة.
* وسوس الشيطان.. لآدم عليه السلام
لكن من خارج سياق المعركة الأساسية، لا بدّ من تصحيح مفهوم شائع في الثقافة
الشعبيّة، وهو اتّهام السيّدة حوّاء عليها السلام زوج آدم عليه السلام -يعني الناس
يتّهمون أمّهم- بأنّها هي التي دفعت آدم إلى الأكل من تلك الشجرة، وبالتالي تتحمّل
كامل المسؤوليّة عمّا حصل في بداية هذا الصراع. هذا موجود في الثقافة الشعبيّة، لكن
لا أساس له من الصحة. يتحدّث الله سبحانه وتعالى في القرآن بدقة عن هذه النقطة،
قائلاً:
﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ
يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى﴾
(طه: 120). الخطاب كان لآدم، لكن في
آيات أخرى يمكن أن نفهم أنّ المسؤوليّة مشتركة-؛ لأنّ لكلّ من حواء وآدم عليهما
السلام حريته واستقلاله وإرادته، فكلّ منهما أخذ قراره، لذلك قال الله سبحانه
وتعالى في آيات أخرى:
﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ﴾ (الأعراف: 20)، وعندما يعاتبهما الله سبحانه وتعالى
يعاتبهما معاً
﴿وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ
أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ
لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ (الأعراف: 22)، وفي آية أخرى يقول الله جلّ جلاله:
﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا
فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾ (البقرة: 36). على كلٍّ ليس الهدف من هذا الكلام أن نُحمّل
آدم المسؤولية، وإنما الهدف أن نخرج من هذه الثقافة الخاطئة التي تُحمّل أمّنا
حوّاء المسؤوليّة، وبالتالي تُحمّل المرأة المسؤوليّة، وأنّها أخرجت أبانا من
الجنّة.
* إبليس ليس وحده
بالعودة إلى بحثنا الأساس، انتهينا إلى أنّ هدف إبليس هو الإضلال والإغواء وقطع
الطريق بين العباد وبين الله عزّ وجلّ، وأنّ إبليس ليس له سلطانٌ على العباد إلّا
إذا هم اتّبعوه، وأطاعوه، وسلّطوه على أنفسهم. هذه الفكرة يجب التأكيد عليها بوضوح،
ولذلك تقول الآية:
﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ
الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ
وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ
فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ
بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ
مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (إبراهيم: 22).
وما هو خطير ولا بدّ من إضافته أنّ لإبليس مساعداً داخل الإنسان.. من الأمثلة
العسكرية على ذلك أنّه إذا أراد أحدٌ ما مهاجمة مدينة أو قلعة، ولديه أشخاص في هذه
القلعة يعينونه، ويعطونه المعلومات، ويمدّونه بنقاط الضعف، فهو يستطيع أن يتسلّل
إلى داخل القلعة، بينما إذا كانت هذه القلعة محصّنة مئة بالمئة، عندها يختلف المشهد
تماماً.
* النفس الأمارة والشهوات أعوان إبليس
في المعركة، بين إبليس والإنسان، العامل المساعد لإبليس، للأسف الشديد، هو في داخل
الإنسان. وفي الأدبيّات الإسلامية تسمى "النفس الأمّارة بالسوء". يعني في داخل كلّ
إنسان، بحسب أصل الخِلقة والجبلّة الإلهيّة التي خُلقنا عليها، مثلما أعطانا الله
عقلاً وكذا وكذا، أوجد فينا مجموعة من الشهوات والغرائز والحاجات الموجودة في
الإنسان بشكل فطري وبشكل طبيعي. ولولا وجود هذه الشهوات والحاجات والغرائز لكان من
الممكن أن لا يأكل الإنسان، ولا يدافع عن نفسه، يعني لولا غريزة حب البقاء، لولا
الغريزة الجنسية لما كان التناسل ولما استمرّت البشرية. إذاً، فهذه الشهوات أودعت
في الإنسان لخير الإنسان، ولسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة وليس لضرر الإنسان.
لكن هذه الشهوات والحاجات يمكن الاستفادة منها في الخير ويمكن استخدامها في الشرّ،
تماماً كالعلم، مثلاً الفيزياء يمكن الاستفادة منها في الخير، في موضوع الطبّ،
ويمكن استخدام هذا العلم، من جهة ثانية، في قتل البشرية والناس.
* استغلال الشهوات
إبليس يستغلّ هذه الشهوات الموجودة داخلنا، كغريزة حبّ البقاء، وحب البقاء يختلف عن
حب الحياة. حب البقاء كيفما كان، ولو أن يكون الإنسان ذليلاً خانعاً، مثلما حدث في
كربلاء؛ إذ خاف الناس على أنفسهم وعلى أولادهم فتآمروا وارتكبوا أفظع جريمة في
التاريخ. والغرائز المتنوّعة والمختلفة يستغلها إبليس، فتعينه وتساعده وتهيّئ له
الأرضية وتمكّن له، وتفتح له الأبواب والنوافذ، ويصبح الإنسان هنا أمام تحالف.
إذاً، نحن في هذه المعركة -التي نتحدّث عنها- كل فرد منّا يواجه على مدار الساعة
تحالفاً بين طرفين، الأول: إبليس وشياطينه، والثاني: النفس الأمّارة بالسوء،
والشهوات (أي ما نشتهي). إذاً نفسنا الأمّارة بالسوء وإبليس وشياطينه، يتحالفون
علينا ويتآمرون علينا، فيأخذوننا إلى مسار غير المسار الذي يريده الله سبحانه
وتعالى لنا.
الله سبحانه وتعالى في القرآن، والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم
السلام في الكثير من الروايات، تكّلموا عن عبادة الشيطان واتّباع الشيطان، وتولّي
الشيطان ثم تكلّموا عن اتّباع الهوى الذي هو النفس الأمّارة بالسوء، وأيضاً عن
اتّباع الشهوات
﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ
هَوَاهُ﴾ (الفرقان: 43). اتّخاذ الهوى إلهاً من دون الله، وإطاعة
الهوى، واتّباع الشهوات.
﴿بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا
أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ (الروم: 29). فعندما يتّبع الإنسان نفسه الأمّارة بالسوء،
ويتّبع هواه، ويمشي خلف شهواته، ويعطّل عقله، ويسلّم رقبته لرغباته ونزواته، يصبح
أسير الشيطان ويقع في حبائل الشيطان.
ولأنّ المعركة هنا مع هذين الحليفين، فهي معركة مزدوجة، ولذا نجد في الأدعية
الشريفة، دعاءً نطلب فيه من الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على أنفسنا، وأن يعيننا
على شياطيننا.
وبذلك أصبح واضحاً الآن ماهيّة التحالف ومَن هو الخصم والعدو، ولذلك ورد في بعض
الروايات "أعدى عدوّك نفسك التي بين جنبيك". والمقصود من النفس هذا الجانب منها
الأمّار بالسوء، الذي يدعو إلى الشهوات خارج الضوابط الشرعيّة.
(*) كلمة سماحة السيد حسن نصر الله (حفظه الله) - ليلة الخامس من شهر محرم
1438هـ/ 2016م.
(1) وردت في مقالتين سابقتين في العدد (303) و(304).