سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)
حدّثنا الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، في العديد من السور القرآنيّة، عن جوهر وحقيقة وعمق المعركة القائمة على وجه الأرض... في هذا المقال، سنحاول أن نذهب إلى أساس وجوهر هذا الصراع.
*المرحلة الأولى: تشخيص المعركة وحقيقتها وميدانها
عندما يتحدّث الله سبحانه وتعالى عن قصة في القرآن، الكتاب الخالد، هذا يعني أن هذه القصة لها أهمية كبيرة ولها دلالات وتأثير على حياة الناس. وعندما يعيد القصة نفسها، ببيان زائد أو ناقص في عدد من سور القرآن، فهذا دليل على الأهمية الفائقة لهذه القصة وتأثيرها في هداية البشرية.
يحدّثنا الله سبحانه وتعالى، في القرآن الكريم، عن قصة "آدم وإبليس". آدم، هو مصداق لمفهوم كلّي هو الإنسان. وإبليس، هو اسم لشخص ينتسب إلى الجنّ؛ أي مثل الإنسان - عنوان كلّي لأشخاص.
*إبليس في جمع الملائكة
كمقاربة بالأدبيات المعاصرة، في هذا الزمن، نقول: خلق الله سبحانه وتعالى السماوات والأرض والملائكة والجنّ والحيوانات... إلخ قبل أن يخلق آدم، أبا البشرية. وكانت الملائكة تعبد الله سبحانه. وكان رجلٌ من الجنّ، اسمه إبليس، كثير العبادة لله عزّ وجلّ، زاهد، ذاكر، ولشدّة عبادته عُدَّ في جَمع الملائكة، العظيم والمقدّس. ثم أراد الله سبحانه وتعالى أن يجعل في الأرض خليفة، واختار الإنسان آدمَ ليكون خليفته في الأرض، وعلّمه الأسماء كلّها، واحتجَّ به على الملائكة والموجودات والمخلوقات، وبيَّن لها فضل آدم وجدارته للخلافة. ثم أمر الملائكةَ بالسجود له -لم يكن سجود عبادة، وإنّما سجود تعظيم، وتكريم، وتقدير لخليفة الله في أرضه- فسجد الملائكة كلّهم أجمعون إلّا إبليس، والذي هو في الأصل دخيل على الملائكة، أبى واستكبر وتمرَّد وقال: ﴿أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ (الأعراف: 12)، وكان هذا التمرّد الأوّل.
*أهميّة معرفة العدوّ
طرد الله سبحانه وتعالى هذا المتمرّد من رحمته ولعَنَه، وأصبح مغضوباً عليه، لعصيانه ربّ العالمين. ولكنّ إبليس طلب من الله سبحانه وتعالى أن يمدَّ في عمره إلى يوم يبعثون، قائلاً: ﴿أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ (الأعراف: 14)، فأجابه الله تعالى إلى طلبه. ثم أمر سبحانه وتعالى آدم وزوجه أن يسكنا الجنّة، وقال لهما، ومن ورائهما لكلّ وُلد آدم وذريّة آدم: إنّ إبليس هو العدوّ. فعرف آدم عدوّه منذ اللحظات الأولى، فتشخيص العدوّ، هو أمر أساس في النصر في أي معركة.
وقد أعلن إبليس هدفه من موقع الانتقام والثأر. فالقصة بدأت حسداً وكبرياءً ثم استمرّت عنده من موقع الانتقام والثأر، فقال مخاطباً الله عزّ وجلّ، كما ورد في القرآن الكريم: ﴿قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً﴾ (الإسراء: 62)؛ أي لأستولينَّ عليهم أو لأستأصلنّهم بالإغواء. أعطني هذه الفرصة فقط.
وفي آية أخرى: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ (الأعراف: 16) بمعنى سأنصب لهم الكمائن كي أمنعهم من الوصول إليك.
وفي آية ثالثة: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ (الحجر: 39-40). إذاً، هدف إبليس، ومشروعه، وجنوده من الجنّ والإنس، تحت مسمّى الشياطين في القرآن، هدفهم وهو: قطع طريق وُلد آدم إلى الله سبحانه وتعالى، وإضلالهم، وإسقاطهم إيمانيّاً، وسلوكيّاً، وأخلاقيّاً، وإنسانيّاً حتى لا ينعموا في الدنيا، بالحياة الطيّبة الشريفة التي أرادها الله لعباده وحتى يُزجَّ بهم في نار جهنّم في الآخرة.
قال الله سبحانه تعالى لآدم: إبليس عدوّك، والمعركة مفتوحة بينكما: أنت لديك الإرادة والعلم والإمكانات، وهو أيضاً.
*الهدف الأول: إخراج آدم من الجنّة
في عدد من الآيات يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى * فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى﴾ (طه: 116 - 117). حدّد الله لآدم العدوّ وحدَّد له هدف العملية الأولى التي سيشنّها: أن يخرجكما من الجنة.
يعتبر بعضٌ أنّ هذه المرحلة الأولى هي مرحلة تأهيلية، تجريبية... وبالفعل، خسر آدم الجولة الأولى.
*اهبطوا منها جميعاً
بكى آدم، وتاب، وندم، وتاب الله عليه واجتباه. لكنّ هذه الخسارة كان لها تداعياتها، وكبرى تداعياتها القرار الإلهي: ﴿اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً﴾ (البقرة: 38) ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ (الأعراف: 24). وهنا بدأت المرحلة الجديدة التي ما زالت مستمرة إلى الآن وإلى قيام الساعة. فعلى هذه الأرض مسؤوليات وهي ليست كما الجنة ﴿وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا﴾ (البقرة: 35). على الأرض عليكم أن تعملوا، وتزرعوا، وأن تواجهوا الجوع، والعطش، والأعاصير، وأن تستغلّوا الطبيعة، وعليكم أن تسجدوا، وتعبدوا، وأن تواجهوا إبليس و... إلى آخره، وعلى هذه الأرض ستعيشون، ستموتون ومنها ستُبعثون من جديد يوم القيامة.
يقول الله عزّ وجلّ: ﴿قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ (الأعراف: 24).
وفي بعض الآيات نرى تتابع المشهد: ﴿قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (البقرة: 38-39).
*بداية المعركة كان الحسدُ أيضاً
ثم تأتي الحادثة الأولى على الأرض، حادثة قتل الأخ لأخيه: قتل قابيل هابيل بحسب الروايات. فالقرآن عندما يتحدّث عن هذه القصة، لا يتحدّث بالأسماء، بل عن ابنَي آدم ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ (المائدة: 27). هابيل: المؤمن، الطاهر، التقيّ قدَّم قرباناً لله عزَّ وجلّ -بغض النظر عن التفاصيل-، وقابيل السيّئ، الحسود، المتكبّر قدَّم قرباناً لله سبحانه وتعالى. فتقبَّل الله قربان هابيل التقيّ، لأنّه ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾، فغضب قابيل وطوَّعت له نفسه قتل أخيه، فقتله. وهنا نبحث عن دور إبليس والحسد. فالحسد الأول كان بداية المعركة -في السماء في الجنّة كما يُقال- والحسد أيضاً كان في المعركة الأولى، في الأرض.
وكان هابيل أول شهيد مظلوم يُقتل ظلماً وبغياً. وصار لإبليس جنديٌّ من وُلد آدم -قابيل- ليستمرّ في غيّه، وظلمه، وفي إجرامه وطغيانه. وهكذا تمّ فرز معسكرين متصارعين على الأرض، وسيبقى الصراع إلى قيام الساعة. وهذا عمق الموضوع وجوهره:
المعسكر الأول: آدم وزوجه، والصالحون من ذريّته، قادتهم الأنبياء وأتباع الأنبياء، منذ آدم إلى خاتم النبيين.
المعسكر الثاني: إبليس وجنوده من الجنّ والإنس. وكلا المعسكرين له أهدافه، ومشروعه ويتصارعان على هذه الأرض.
*بين معسكريْن ومشروعيْن
المعركة الحقيقية لم تكن بين آدم وقابيل، بل كانت بين آدم وإبليس منذ البداية، كما لم تكن بين نوح والملأ الأعلى المستكبرين من قوم نوح، بل هؤلاء كانوا ألعوبة بيد إبليس. ومعركة إبراهيم لم تكن بين إبراهيم ونمرود في الجوهر والحقيقة، بل كانت بين إبراهيم وإبليس، بينما نمرود كان ألعوبة بيد إبليس، وهكذا بين موسى وفرعون، وبين السيد المسيح وطغاة زمانه، وبين رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأبي جهل وطغاة قريش، فالمعركة كانت مع إبليس الذي يوجّه ويخطّط ويوسوس، وهذه المعركة مستمرّة إلى النهاية.
بين المعسكرين والمشروعين، معسكر إبليس وجنوده من الإنس والجن، الذي يريد للبشرية أن تضلَّ وتنحرف وتُنكر الخالق وتكفر بنعمائه وتظلم وتنشر الفساد وترتكب الجرائم ويكون لها بؤس الدنيا وعذاب الآخرة. وفي المقابل، الأنبياء وأتباع الأنبياء يريدون للإنسان وللبشرية أن يكونوا مؤمنين بربّهم، شاكرين لنعمائه، مطيعين لأوامره، عابدين له في أرضه، لتكون لهم الحياة الطيبة الشريفة الكريمة في الدنيا، وليكون لهم النعيم الخالد في الآخرة.
إذاً، هذه أهداف كلّ معسكر على حدة، وبالتالي كلّ ما يحدث في المعركة هو تطبيقات، ومصاديق، وتجلّيات... من جيل إلى جيل ومن زمن إلى زمن، فجوهر المعركة ثابت وحقيقتها واضحة وواحدة، فساحة القتال هي ساحة الناس، وميدان المعركة هو الإنسان.
(*) كلمة السيد حسن نصر الله (حفظه الله) في ليلة الثالث من شهر محرم 1438هـ ـ 2016م.