حسن ركين
قالوا الشعوب نفكُّها من رقِّها | كلا بل استعبادَها قد راموا |
باسم الحماية والوصاية يُجترى | حقٌ لكم وتدوسكم أقدامُ |
من شعر المرجع الديني آية الله العظمى السيد محسن الأمين قدس سره حيث يتحدث فيه عن الوجه الحقيقي للانتداب، وما اخترعه الغرب بُعيد انتهاء الحرب العالمية الأولى لتقسيم ميراث الدولة العثمانية. ولكن العامليين علماء وأدباء ومفكرين لم يرضخوا لسياسة الأمر الواقع التي حاول الفرنسيون فرضها عليهم بتقسيم بلاد الشام إلى دويلات طائفية، وبقي العامليون متعلقين بدينهم وقوميتهم وعروبتهم.
* التمسك بالوحدة الإسلامية والعربية
نتيجةً لتعلق أهالي جبل عامل بالوحدة الإسلامية والعربية، فقد دفع العامليون الثمن غالياً حيث تعرضت أرض جبل عامل في هذه المرحلة الانتداب إلى هزات سياسية وأعمال عسكرية مفجعة، خاصة بعدما تبلورت استراتيجية العامليين برفض فكرة الوطن القومي اليهودي على الأراضي الفلسطينية، وبعد ذلك بدأت القوات العسكرية الفرنسية بالحملات العسكرية على أراضي جبل عامل والبقاع، بهدف وأد الأصوات المعارضة للسياسة التعسفية الفرنسية، والقضاء على كل المقاومين الذين أرادوا الاتحاد مع سوريا ضد المشاريع الإنكليزية الفرنسية، وعلى رأسها وعد بلفور بإقامة الدولة اليهودية المزعومة، ومن جملة ما قام به الفرنسيون الحملة العسكرية على البقاع بتاريخ 1919- 12- 15م، حتى نهاية كانون الثاني 1920م، وحملة عسكرية أخرى على جبل عامل حيث وصلت جحافل العسكر الفرنسي إلى النبطية بتاريخ 1919- 12 - 22 وبدأت بالتنقل بين القرى ممارسةً الإرهابَ والتنكيلَ وسرقة الخيراتِ والمواسم وقطعان الماشية، وظلَّت هذه الحملة أكثر من خمسة أشهرٍ حيث اقتحمت القوات الغازية عدة قرى وأَحَرْقَتَ قرى بكاملها؛ وقام الجنرال الفرنسي نيجر بتاريخ 1920- 5 - 18م، بحملة شرسة على القرى القريبة من بنت جبيل حيث ترك جنوده خلفهم الكثير الكثير من الدماء والدمار والخراب والفقر والتشريد بعدما سرقوا المواشي وأحرقوا مواسم زرع الحبوب قبل قطافها. كل هذه الحملات كان الهدف منها قطع أمل العامليين بالوحدة، والتخلي عن مواقفهم الوطنية.
* دعم القضية الفلسطينية
كما أن العامليين دفعوا ثمناً باهظاً من التضحيات والبذل في سبيل دعم القضية الفلسطينية ومقاومة الكيان الصهيوني الغاشم منذ العام 1948، فلم يترك العامليون فرصة سانحة إلا واستغلوها في سبيل دعم جيرانهم الفلسطينيين. فعلى أثر ما قام به الصهاينة في فلسطين من اغتيال شخصيات عربية بارزة ومطالبتهم الإنكليز بتحقيق وعد بلفور المشؤوم بإيجاد وطن قومي لهم في الأراضي المقدسة؛ جرت مظاهرة ضخمة في 26 آب 1929م ضمت آلاف العامليين، وسار في طليعتها العلماء والقضاة والشبان من أبناء جبل عامل. وعلى أثر تسهيل هجرة اليهود من قبل البريطانيين وأثناء إعلان الشيخ عز الدين القسام في فلسطين ثورته ضد الإنكليز والصهاينة وسقوط مئات الشهداء، تنادى الشباب العاملي إلى تشكيل لجنة تمد يد المساعدة للمجاهدين فتألفت من الشيخ أحمد الزين وتوفيق الجوهري وسليم الزين وآخرين...
وقد قامت هذه اللجنة بمراقبة المنتجات الصهيونية في الأسواق اللبنانية ومنعها، حيث كانت بعض الفئات اللبنانية تسعى لإنشاء وطن قومي لها في لبنان على غرار الوطن القومي اليهودي المزعوم في فلسطين، وقامت اللّجنة بعمليات صدٍّ لتصدير المنتجات الصهيونية ومنع الإمدادات الفرنسية التي كانت ترسل من بيروت إلى فلسطين. ولم تقتصر مشاركة العامليين لإخوانهم الفلسطينيين في محنتهم بالمظاهرات والاحتجاجات، بل تعدتها إلى المشاركة الفعلية في القتال العسكري والاستشهاد معهم على أرض فلسطين، فعندما احتدمت المعارك احتداماً عنيفاً في جميع جهات فلسطين أبدى الشباب العاملي شجاعة لا نظير لها في مواجهة جحافل الصهاينة والإنكليز، كما سقط عشرات الشهداء من منطقة صور وآخرين من منطقة جزين ومنطقة النبطية وبنت جبيل.
كما وانصبت جهود العلماء العامليين لدعوة العرب والمسلمين إلى الجهاد من أجل إنقاذ فلسطين قبل أن تضيع وتكون بداية لانهيار العرب والمسلمين، ومع بداية أحداث فلسطين في الثلاثينات والأربعينات نادراً ما خلت خطبة أو قصيدة من ذكر فلسطين وتصوير مأساة شعبها. ولم يقتصر العامليون في دعمهم للقضية الفلسطينية على القاطنين في جبل عامل، بل تعدى ذلك إلى العامليين المغتربين في شتى أرجاء العالم، يحرِّضون الناس للإسراع إلى فلسطين والذود عنها، وقد قاموا بجمع التبرعات والمساعدات العينية وإرسالها لنصرة القضية الفلسطينية، وتشكيل لجان دعم للقضية الفلسطينية وعرض مأساة فلسطين أمام الرأي العام في بلاد الاغتراب. ولو فتشنا في جميع الدول العربية والإسلامية لوجدنا أن العاملي هو أول من وقف بجانب إخوانه الفلسطينيين حيث جاهد وقاتل واستشهد، ثم استقبل المهاجرين والمبعدين من الأراضي الفلسطينية.
* في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي
تقاسم العاملي لقمة العيش مع أخيه المهاجر الفلسطيني، وواجه العدوان الصهيوني المتكرر على أراضيه منذ 1948م، حيث استبيحت أراضيه وجوِّه ومياهه، وتعرض جبل عامل للاحتلال أكثر من مرة، ولم يمضِ يومٌ من تاريخ النكسة حتى اليوم إلا واخترق العدو الصهيوني حُرْمَةَ الأراضي العاملية وجوّها وسرق مياهها ونهب خيراتها. وتفيد الدراسات الإحصائية أنه لم يَسْلَم بيت واحد من البيوت العاملية إلا وفقد عزيزاً أو قريباً أو صديقاً من جراء الحقد الصهيوني المدمِّر والذي لا يعرف قيمة للإنسانية. وقد تعرض جبل عامل لعدَّة عمليات احتلال وكان أكبرها في العام 1978 حيث نفذ العدو الصهيوني عملية توغل داخل الجنوب اللبناني وأطلق عليها اسم (عملية الليطاني). ثم في العام 1982م، اجتاحت جحافل العدو الصهيوني كل الأراضي العاملية ووصلت إلى العاصمة بيروت تحت اسم عملية سلامة الجليل، هذه العملية المزعومة تخلَّلها أبشع المجازر في التاريخ، وأفظع ما يمكن تصوره من حقد وكره، حيث صب العدو عناقيد غضبه على العزَّل الآمنين. ولم يخطر ببال آل صهيون يوماً أن هؤلاء الشباب الذين قال عنهم أحد الضباط العسكريين الإسرائيليين "بأنهم لا يحسب لهم حساب في المفكرة العسكرية الإسرائيلية" وأن "الحكومة الإسرائيلية تستطيع كسب موالاتهم وجعلهم خط دفاع أول عن (إسرائيل) بمواجهة سوريا و(المخربين)". هذه الرؤية الصهيونية انقلبت وانعكست، حيث أن الكيان الغاصب لم يحصد من جبل عامل إلا الفشل والخسائر.
ما خسره العدو في جبل عامل لم يَخْسَرْهُ طيلة فترة عدوانه على جميع الدول العربية. ويكفى أنه دُحِر عن هذه الأرض بلا قيد ولا شرط، وينتظر بين لحظة وأخرى انقضاض العامليين إلى فلسطين الجريحة لإنقاذها من براثنه، وأصبح العدو الإسرائيلي على يقين بأنَّ نهايته ستكون على أيدي المجاهدين العامليين، والموعد مع القدس قريب...
حسن الأمين من بلد إلى بلد
محمد علي الحوماني، مجلة العروبة، ج2، شباط 1947.
منير الخوري، صيدا عبر حقب التاريخ.
جريدة بيروت، 28 تموز 1936م.
مجلة العرفان، المجلد34.
نص الحديث للجندي الصهيوني مأخوذ من ترجمة لنص صحفي عبري معرب.