الشيخ علي حسين حمادي
حَمل المسعف الحربيّ اليد التي تقطر دماً كغدران العطاء، من فوق المرفق ورفعها إلى الأعلى كما يُفترض في مثل هذه الإصابات، ليوقف شلّال الدم النازف. ثمّ ربطها بأسرع ما يمكن وهو ما زال في أرض المعركة، وأصوات القذائف ورصاص القنص تشظّي من كلّ حدب وصوب، ثمّ حمل هو ومساعده، الحاجّ أبا رضا وطارا به إلى غرفة العمليّات الميدانيّة الجاهزة.
*أيّ ألمٍ أشدّ؟
كان الأطباء والمسعفون قد أعدّوا مسبقاً عشرات أكياس المصل الجاهزة ووحدات الدم وكذلك إبر المورفين وكلّ ما يحتاج إليه الطبيب كمقدّمات للعمليّة الجراحيّة. فهم كانوا يتوقّعون أنّهم سيحتاجون إلى هذه الكميّة من الأدوات في معركة بلغ الكلام عن عظَمتها وشدّتها ذروته قبل أشهر من بدئها.
لا يمكن أن يتصوّر أحدٌ حال الجريح وشدّة آلامه ومعاناته، فكيف بجريح ٍ بُترت يده أو ساقه في أرض المعركة؟ هل نستطيع أن نحسم أيّهما أشدّ عليه في اللحظات الأولى: الألم الماديّ أم المعنويّ؟
*ارتقاء من نوع آخر
عرف الحاج أبو رضا أنّ يدَه قد قُطعت. فالمسعف اضطرّ إلى رفعها. مع أنّه، وحسب الأصول المتّبعة في الإسعافات، يجري إخفاء الجرح عن صاحبه، خاصةً إذا كان خطيراً؛ مراعاة لحالة الجريح النفسيّة. ولكن ما كان باليد من حيلة، فقد اضطرّ المسعف إلى رفعها أمام عينيه حتّى يوقف النزيف.
وقد يرى الإنسان أو يسمع عن حالات من الصدمة التي تُصيب الجريح الذي يعود ويتقبّل الأمر، إمّا مسلّماً راضياً وإمّا مكرهاً، أو قد يتقبّله في أحسن الحالات من اللحظة الأولى دون أيّ شكوى. ولكن حالة الحاج أبي رضا لم تتوقّف عند أيّ من هذه الاحتمالات، بل تجاوزتها إلى ارتقاء من نوع آخر لم نسمع بما يفوقه عظمة سوى في محطّة واحدة من محطات التاريخ العظيمة.
*لا تزال يدي الأخرى سليمةً
وصل المسعف حاملاً أبا رضا إلى المستشفى الميدانيّ. كان الأطبّاء جاهزين لاستقباله. ساعدهم الطبيب الجرّاح لوضعه على السرير، ثمّ سارع إلى إبرة المورفين كي يخفّف الألم عنه كما يجدر بالطبيب أن يفعل.
ماذا تفعل؟؟!! صرخ صرخة أقوى من كلّ الوجع...
ذعر الطبيب وظنّ أنها ردّة فعل طبيعية جرّاء الوجع: هذه إبرة مورفين مسكّنة.. ثوانٍ ولن تشعر بعدها بالألم إن شاء الله.
بكى الجريح... وهل أعطى أحدٌ إمامنا العباس مسكّناً للألم؟!!
راح يصرخ كأنّه يعطي الأوامر العسكرية في أرض المعركة: لا أريدهااا!!
ارتبك الطبيب وذهل. قال والإبرة ترتجف في يده: ولكن يا حاج! الإبرة ضروريّة لكي...
قلت لك لا أريدها. أعطها لمن هو بحاجة إليها أكثر منّي. ما قيمة يدي إذا لم أواسِ بها العباس؟! ما زال عندي يد... قال بأسى كأنّه يشكو وجود اليد السليمة ويتمنّى لو كانت قُطعت هي الأخرى.
تمنّى الطبيب لو كان يملك وقتاً ليتأمّل في هذه الحادثة النادرة أو يسرع ليسجّلها في دفتر مذكراته ولكنّه أجّل ذلك، لأنه في خضمّ واجبه ومهامه.
وضع الإبرة جانباً وبدأ يعالج جريحه دون إعطائه المسكّن.
*هم أهل الله
هدأت المعركة بعد أيام... وقبل أن يأخذ الطبيب إجازته، علّق ورقةً كتبت بخطّ يده على باب المستشفى الميدانيّ:
لقد درست الطب في أهمّ جامعات العالم، ولكن هنا فقط تعلّمت أسمى القيم، هنا فهمت معنى «يا ليتنا كنا معكم» وشاهدت رجالاً يجعلون من كلّ أرضٍ كربلاء.. لم تتجسّد قيم عاشوراء بالسيف والدم في أرض المعركة فحسب.. في هذا المستشفى شهدْتُ قيماً عظيمة لا يمكن أن تتجلّى إلّا في أهل الله...
صدقتم حينما قلتم... نحن حزب الله...