الشيخ تامر حمزة
تحتاج الحرب إلى الشجاعة لتحقيق الهدف والوصول إلى الغاية، ولو فقَدت الشجاع فالهزيمة هي النتيجة. وهكذا بالنسبة إلى الصلح حيث يجب. فإن المُصالِح يحتاج إلى مزيد من الشجاعة لاتّخاذ قرار المصالَحة، ولا يجرؤ عليها إلّا الشجاع والحكيم. وقد يخفى أحياناً وجه الحكمة على الكثيرين حتّى يصبح المُصالِح غرضاً لسهام المُناصرين كما يكون غرضاً في الحرب لسهام المناوئين. ومَن يَصبر على تقريع الموالين فهو أصبر على مقارعة المعادين.
*انتصارات الثورة الصامتة
الإمام الحسن عليه السلام إمام وإنْ قعد، والإمام الحسين عليه السلام إمام وإن قام؛ إذ القعود والقيام موقفان يصدُران عن الإمام وليسا موقفين يتميّز بهما الإمام عن غيره، ولذا فالثورة الصامتة تعطي أُكُلها في حينها كثورة صليل السيوف في حين آخر.
في ثورته الصامتة حقّق الإمام الحسن عليه السلام ثلاثة انتصارات:
أ- عرّف الناس إلى شخصيّةِ معاوية الحقيقيّة، المخادعة، والمخاتلة، والناقضة للعهود والمواثيق.
ب- كَسَر سياسة معاوية القائمة على قتل الشيعة والتنكيل بهم، ثمّ نقَلهم إلى برّ الأمان.
ج- عبّأ النفوس وهيأ الأرضيّة للإطاحة بالنظام الملكيّ المتوارث.
*سياسات معاوية
منذ الأيام الأولى التي وصل فيها معاوية إلى سدّة الخلافة بدأ بتأسيس حكومة، مُخالفة لما اعتاد عليه المسلمون، إذ حوَّل مظاهر الخلافة الإسلاميّة إلى مظاهر كسرويّة وقيصريّة، حتّى وُصفَ بأنّه كسرى العرب(1)، وقد تميّز حين حكمه بكلّ مظاهر الملوك فهو أوّل من اتّخذ سرير الملك(2)، ثم عمد إلى الفصل التام بين المسجد والحاكم، لتعطيل دور المسجد وفاعليّته في المجتمع، فهو الذي أحدث المقصورة(3) في المسجد، لتفصله عن المصلّين، وهو أول من خطب قاعداً(4).
لقد سخّر معاوية كلّ إمكانيّات الدولة الماليّة والأمنيّة والعسكريّة والإداريّة لتحصين ملكه ولضمان استمراره وبقائه. ولذا كانت المفاصل الرئيسة في الدولة بيد الأمويّين أو المخلصين له في ولائهم من دون مراعاة تديّنه. فعلى سبيل المثال كان أحد أمراء الحج من فسقة بني أمية وفجّارها.
وهاكَ مجموعة من السياسات التي بنى معاوية عليها ملكه وعرشه.
أولاً: الجيش
لقد أسّس معاوية جيشاً كبيراً منظّماً، حتّى أضحى الجيش الأول على مستوى التنظيم في تاريخ العرب، وجعله قوّةً ضاربة، للسيطرة على جميع الأمصار البعيدة والقريبة، ولضبط الأمن، وتقوية سلطانه وعرشه، ولضرب جميع حركات المعارضة. وبدلاً من أن يكون جيشاً للدفاع عن الخلافة الإسلاميّة من التهديدات الخارجيّة جعله جيشاً لحماية الملك من التهديدات الداخليّة.
ثانياً: المال
إنّ سياسته الماليّة كانت تقوم على جمع الأموال وفرض الضرائب ثم توزيعها تبعاً للأهواء والمصالح، فهو الذي فرض الضرائب على المناوئين له حتّى أنهكهم، ووهب الثراء العريض للموالين. وقد عبّر عن هذه الحقيقة أهل المدينة حينما أرسل إليهم رسولاً لتحصيل نتاج أرضهم فقابلوه بقولهم: "إنّ هذه الأموال كلّها لنا، وإنّ معاوية آثر علينا في عطائنا ولم يعطنا درهماً فما فوقه حتّى مضَّنا الزمان ونالتنا المجاعة"(5).
ثالثاً: التمييز الطبقيّ والعنصريّ
لقد سار معاوية في الناس على أساس من التمييز العنصريّ والطبقيّ، فالأمويّ مقدّم على غيره، والشاميّ مكرّم على العراقيّ، والعربيّ أفضل من العجميّ. وقد أراد بذلك تمزيق الأمّة وإسقاطها في تناقضات جانبيّة وصراعات فيما بينها حتى لا تجد لها مخرجاً إلّا بالالتجاء إلى السلطة الأمويّة.
رابعاً: الإعلام الكاذب
كان للإعلام دور بارز وخطير في تبييض الوجه الأمويّ والعمل على النيل من مكانة أهل البيت عليهم السلام، ولا سيّما أمير المؤمنين عليه السلام.
ومن مصاديق الأول، ما رواه البخاريّ بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "مَن رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه، فإنّه من فارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية". ومنها ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "معاوية بن أبي سفيان أحلم أمّتي وأجودها"(6)، "وصاحب سرّي معاوية بن أبي سفيان".
ومن مصاديق الثاني (العمل على الحطّ من مكانة أهل البيت عليهم السلام) ما رواه الأعمش أنّه لما قدم أبو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة سنة 41 للهجرة جاء إلى مسجد الكوفة، فلمّا رأى كثرة من استقبله من الناس، جثا على ركبتيه ثمّ ضرب صلعته مراراً، وقال: يا أهل العراق أتزعمون أني أكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأحرق نفسي بالنار؟ لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "إنّ لكل نبي حرماً وإنّ حرمي المدينة ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة أجمعين، وأشهد بالله أن عليّاً أحدث فيها، فلما بلغ ذلك معاوية أجازه وأكرمه وولّاه إمارة المدينة"(7).
وعن الزهريّ قال: "قال ابن عباس لمعاوية ألا تكف عن شتم هذا الرجل؟ قال: ما كنت لأفعل حتى يربو عليه الصغير ويهرم فيه الكبير"(8).
خامساً: الإسراف في تصفية المعارضين
لقد أسرف معاوية كثيراً في تصفية المعارضين في جميع الأمصار حتّى كتب إلى ولاته "انظروا من قامت عليه البيّنة أنّه يحبّ عليّاً وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه"(9). ولقد لخّص لنا الإمام الباقر عليه السلام تلك الحقبة الزمنية بقوله: "فقتلت شيعتنا بكلّ بلدة وقطعت الأيدي والأرجل على الظنّة وكان من يذكر بحبّنا والانقطاع إلينا سُجن أو نُهب ماله، أو هدمت داره"(10).
*المجتمع قبل الصلح
وقد وصف الإمام الحسن عليه السلام حالة الناس في صفوف الموالين قبل الصلح بقوله: "عرفت أهل الكوفة وتلوّنهم، ولا يصلح لي منهم ما كان فاسداً، إنّهم لا وفاء لهم ولا ذمّة في قول ولا فعل، إنّهم لمختلفون ويقولون إنّ قلوبهم معنا وإنّ سيوفهم لمشهورة علينا"(11).
وروي عن الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام قال: "لمّا أجمع الحسن بن علي عليهما السلام على صلح معاوية خرج حتّى لقيه، فلما اجتمعا قام معاوية خطيباً فصَعد المنبر، وأمر الحسن عليه السلام أن يقوم أسفل منه بدرجة، ثمّ تكلّم معاوية، فقال: أيّها الناس، هذا الحسن بن علي وابن فاطمة، رآنا للخلافة أهلاً، ولم يرَ نفسه لها أهلاً، وقد أتانا ليبايع طوعاً، ثم قال: قم يا حسن، [فقام الإمام الحسن فخطب خطبة طويلة، منها:] إنّ معاوية بن صخر زعم أني رأيته للخلافة أهلاً، ولم أرَ نفسي لها أهلاً فكذب معاوية وأيم الله، لأنّا أولى الناس في كتاب الله وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (...) أيّها الناس إنّه لا يعاب أحد بترك حقّه، وإنّما يعاب أن يأخذ ما ليس له (...) فقال معاوية: والله ما نزل الحسن حتّى أظلمت عليَّ الأرض"(12).
*الصلح خير
روى أبو عيسى الترمذي في جامعه قال: "حدّثنا محمود بن غيلان حدّثنا أبو داوود الطيالسي حدّثنا القاسم بن الفضل الحراني عن يوسف بن سعد قال: قام رجل إلى الحسن بن علي بعدما صالح معاوية فقال: سوّدت وجوه المؤمنين، فقال له الإمام عليه السلام: "ويْحَكُم ما تَدرون ما عَمِلت؟ والله [للذي] عملت خير لشيعتي ممّا طلعت عليه الشمس أو غرُبت ألا تعلمون أنّي إمامكم، ومفترض الطاعة عليكم، وأحد سيّدَي شباب أهل الجنة.....؟ قالوا: بلى، قال أما علمتم أنّ الخضر لما خرق السفينة وأقام الجدار، وقتل الغلام، كان ذلك سخطاً لموسى بن عمران، إذ خفي عليه وجه الحكمة في ذلك وكان عند الله تعالى ذكره حكمة وصواباً"(13).
1- أنساب الأشراف، البلاذري ، ج1، ص147.
2- ابن خلدون المقدمة، ص217.
3- تاريخ اليعقوبي، اليعقوبي، ج2، ص265.
4- فتح الباري، ابن حجر، ج2، ص333.
5- حياة الإمام الحسين عليه السلام، باقر شريف القرشي، ج2، ص123.
6- الغدير، الأميني، ج10، ص89.
7- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج1، [مقدمة التحقيق]، ص45.
8- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج4، ص259.
9- شرح أصول الكافي، المازندراني، ج11، ص293.
10- شرح نهج البلاغة، ج11، ص43.
11- الاحتجاج الطبرسي، ص149.
12- الأمالي، الطوسي، ص561.
13- بحار الأنوار، المجلسي، ج44، ص19.